نحاور هنا في المسائل التي تناولها مقال للعماد ميشال عون، في جريدة «السفير» يوم الأربعاء الماضي، بعنوان «لماذا قانون اللقاء الأرثوذكسي؟». ومنعاً لأي التباس، أو سوء تفسير عفوي أو مغرض، نبدأ بالتأكيد أننا هنا نتبنّى، كما في السابق، وجهة نظر الجهة التي كانت تُسمى «القوى الوطنية» (اليسارية منها تحديداً)، والتي كانت ترفض الصيغة الطائفية التحاصصية للنظام السياسي اللبناني في مرحلتي سيادة «الامتيازات المارونية» حتى عام 1975، ثم في مرحلة الامتيازات (المشرعنة أو المفروضة)، من ذات الصنف، التي حلت محلها في ظل الإدارة السورية للبلاد (1990-2005)… واستمرت بعد ذلك (بهذه الطريقة أو تلك) حتى يومنا هذا.
هذه المقدمة هي، إذاً، لتنزيه النقاش، عن أي فرضية، تتعارض مع هدفه: محتوىً وشكلاً. أي أن هذا النقاش ينطلق من موقف مبدئي ولا يصب إطلاقاً في محاولات كانت تستخدم ما ورد في الدستور ووثيقة «الوفاق الوطني» في «الطائف»، بشأن إلغاء الطائفية السياسية، كـ«فزيعة» لدفع بعض القوى السياسية المسيحية للموافقة على سياسات ومواقف وعلاقات، داخلية وخارجية، تقررها الإدارة السورية والفريق اللبناني المتعاون معها.
يجاهر العماد عون، هنا، بكامل موقفه وتصوره بشأن أزمات الوضع اللبناني وطريقة الخروج منها. هو لا يقول جديداً، لكنه يقوله واضحاً ومتكاملاً ومباشراً. لنبدأ من أن العماد لا يوجه أي انتقاد للوضع الذي كان سائداً حتى عام 1975. هو، ضمناً، يتبنى الوضع، على الأقل من حيث يعتبر أن الأزمة بدأت منذ ربع قرن فقط: أي منذ إقرار «اتفاق الطائف» تحديداً. يطرح هذا الأمر إشكالية موضوعية، بل وحتى مبدئية، لجهة أن زعيم «التيار الوطني الحر» يكاد يتناول، هنا، مشكلة خاصة لا عامة، أو أنه يقارب مشكلة عامة من موقع خاص، هو بالضرورة وبالممارسة، موقع فئوي أو حتى شخصي في بعضٍ من أسبابه وتجلياته ومظاهره.
ثم أن العماد عون يكرر تفسيراً «تقليدياً» رائجاً للدستور حين يعتبر أن «المناصفة»، مثلاً، مسألة أبدية لا تدبيراً مؤقتاً قرر الدستور أنه محصور بالولاية الأولى للمجلس النيابي الذي انتقل من نسبة 54/45 (لمصلحة التمثيل المسيحي) إلى المساواة في العدد بانتظار إنشاء مجلس نيابي خارج القيد الطائفي. ولا مبرر لكل تلك المداورة والمناورة والاحتيال (من قبل فرقاء المحاصصة) بشأن نية المشترع ووضوح المقصد. النص الدستوري، مثلاً، في المادة 95 منه، شدّد على ضرورة الإلغاء الفوري للتوزيع الطائفي في كل الوظائف العامة، وفي كل الأسلاك، باستثناء الفئة الأولى (مؤقتاً).
أما بشأن «المناصفة» فـ«قصَّتها قصَّة!». هي بالنسبة لكل أطراف المحاصصة كلمة السر للتنكر للدستور في بنده الإصلاحي الأهم، أي إلغاء الطائفية السياسية، والذي اعتبرته مقدمة هذا الدستور، بالنص الحرفي، «هدفاً وطنياً أساسياً يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية»،… رئيس «حزب المستقبل» السيد سعد الحريري يعتبر «المناصفة» إرثاً شخصياً تعود نسخته الأولى إلى والده الشهيد رفيق الحريري، كما يعتبره كلمة سحرية يصل من خلالها إلى قلوب المسيحيين دون أي جهد آخر! أما «المناصفة» بالنسبة للعماد عون فهي عملية توزيع صارمة للسلطة بين المكونات وفق الصيغة الفضائحية الراهنة، وعلى حساب المشتركات الوطنية في السياسة والإدارة وحقوق المواطنين، وصولاً إلى مبدأ المواطنة نفسه، انتهاءً بمستلزمات بناء دولة مكتملة عناصر الوجود وأولها الوحدة الوطنية السليمة والحصينة… في الترجمة العملية تعني «المناصفة» أن يستحوذ العماد عون، بوصفه الأكثر تمثيلاً في الوسط المسيحي، على كل الحصة المسيحية وأن يمارسها، كما يفعل الآخرون، بنفس حزبي واستئثاري كما في الوزارات التي تحققت فيها «المناصفة» و«الشراكة» ومنها وزارة التربية مثلاً التي أشارت وسائل إعلام عديدة (بينها «الأخبار») إلى أنها تكادُ تدار، بالكامل، عبر خلية حزبية تمارس سياسة فئوية إلى الحد الأقصى الممكن!
يقود منطق العماد عون، الذي تناولنا بعض أُسسه، إلى المطالبة بـ«القانون الأرثوذكسي». وهو صيغة، من شأنها، لو اعتمدت، أن تدفع منطق الدويلات إلى مداه الأقصى: لجهة فرز اللبنانيين، كلياً، على أساس طائفي ومذهبي، ثم لجهة وضع الأساس المادي لنزاعات كبيرة يهدد بها ضمناً العماد عون، مرة جديدة، حيث ينهي مقالته بالقول: «مع استمرار هذا الخلل، وعدم القيام بتصحيحه، فإن أي لبناني أصبح له الحق بأن يطالب بإعادة النظر بمضمون العلاقات الداخلية بين مكونات المجتمع اللبناني، لأن استمرار الوضع كما هو عليه، سيهدم كل مقومات الوطن»! لكن العماد عون يعدنا أنه، بعد تأمين الشراكة عبر مشروع «القانون الأرثوذكسي» الذي سيؤدي إلى حل كل أزمات لبنان (!)، «يمكن عندها إعادة النظر بموضوع إلغاء الطائفية السياسية وفقاً للمادة 95 من الدستور». ما معنى هذا الكلام؟ هل معناه أنه بعد تحقيق «المشاركة» و«المناصفة» الطائفيتين يمكن أن نعود إلى بحث مسألة التخلي عنهما؟ أم أن المقصود هو إسقاط المادة 95 من الدستور؟ تفسير الفقرة ينطوي على كلا الاحتمالين، وإن كان الثاني، وفق التوجه الذي يحكم المسار الراهن للتيار العوني، هو المقصود هنا؟!
في المبدأ، يعاني لبنان والمنطقة، خصوصاً في المرحلة الراهنة، من تغذية واستشراء تطرف ديني ومذهبي وطائفي تحوَّل إلى مصدر انقسام وفتن خطيرين بحيث جعل البعض يترحم على تقسيمات سايكس بيكو قبل 100 عام (افتتاحية «السفير» في اليوم المذكور نفسه آنفاً!). الغريب أن العماد عون ومساعديه لا يجدون ما يقولونه بهذا الصدد، أي في مواجهة موجة التقسيم الأولى وموجة التفتيت الراهنة: لا تُواجه هذه الموجة بمزيد من الانقسام والفئوية، بل بمشاريع جدية ومسؤولة لتوحيد القوى والجهد في مشاريع وخطط من شأنها توفير الحد الأدنى من الحصانة في وجه التطرف الداخلي ومشاريع الهيمنة الخارجية. الأقليات المهددة مثل سواها، لا يجوز أن تساهم في الانقسام بل أن تشهد للتوحد وللمساواة وللمواطنية. الصيغ القائمة على العدد، بالنسبة للأقليات، وهو عدد قد يتناقص باستمرار لغير مصلحتها، هي صيغ قاصرة ولا تنفع أبداً في رد خطر أو تهديد، داخلي أو خارجي. المسيحيون، تحديداً في لبنان، يمتلكون مساهمات ومقومات ثمينة في حقول الانفتاح والريادة الفكرية والتعلق بالحرية والترويج للتوجه القومي، بما يؤهلهم لأن يقدموا مبادرات تتعدى المصالح أو التطلعات الخاصة لهذا الزعيم منهم أو ذاك.
اتخذ العماد ميشال عون، منذ عودته من المنفى عام 2005، خطوات صائبة وجريئة حيال الصراع في المنطقة وحق الشعب اللبناني في المقاومة لتحرير أرضه. الانكفاء إلى المستوى الطائفي، للتعبير عن «الحقوق» والسعي من أجل تحصيلها، هو مسار معاكس للبرنامج التحرري الوطني المطلوب في هذه المرحلة الخطيرة والمصيرية التي يجتازها لبنان والمنطقة عموماً. أولويات هذا البرنامج المنشود هي نبذ كل العصبيات والفئويات، والتوحد ضد القوى الاستعمارية وأهدافها القديمة الجديدة في السيطرة والنهب والاغتصاب والتفتيت…
* كاتب وسياسي لبناني