Site icon IMLebanon

سقوط أسطورة

 

كانت أونغ سان سو كي قبل وصولها إلى الرئاسة البرمانية «العمّة سو» و«الأم تريزا»، و«أنطيغون» و«ضمير العالم»، و«بطلة الإنسانية» و«أيقونة النضال»، والمناضلة الشرسة، الشجاعة من أجل حقوق الإنسان، والحرية والديموقراطية. أُنتجت عنها أفلام، ودبجت لوحات، ونُظّمت قصائد، ووُضعت دراسات ومدائح. كأنّها «وعد» برمانيا الكبير. وقبلة الكتّاب، والمثقفين والفنانين.

كان الديبلوماسيون، ورؤساء الدول الكبرى، والصحافيون يتسابقون للقائها، ليتبركوا بها، فخورين بلقاء «السيدة الأسطورة». صارت شهرتها على كل جدار، ومقهى، وعلى لسان العالم، «مرشدة فكرية»، «قدّيسة العصر». كل ذلك لمواقفها ضد نظام القمع في بلدها، وانحيازها إلى الفقراء، والتصدي للظلم، ورفع شعار الحرّية، لم تكن تستخدم كلمة «برمانيا» في أدبياتها بل «شعبي»، من دون تمييز بين الروهينغا والبرمانيين.

وُضعت في الإقامة الجبرية طويلاً، وزُجّت في السجن، لإسكات صوتها، لكنّها، صمدَت، وعاندَت، وواجهَت آلة القمع. على كلّ هذه المواقف نالت جائزة «نوبل» للسلام عام 1994.

خرجت من الاعتقال، وعادت من لندن إلى بلادها «أريد الرجوع إلى بلدي، لمشاركة شعبي معاناته». ثم عادت، وهلّل لها الشعب، وانتُخبت تقريباً بالإجماع رئيسة برمانيا.

هنا التجربة السياسية، وقبلها تجربة النضال. هنا رئيسة وقبلها مواطنة من المواطنين اختارت طريق المقاومة المدنية. لكن هل هناك اختلاف بين الزمنَين؟ وهل لكلّ موقع مقامه، وحساباته وممارساته؟

يبدو أن «العمّة سو»، تأكدت أخيراً أنها «سياسية» بكل معنى الكلمة. تُشارك في لعبتها وتسوياتها، ومساوماتها، وتنازلاتها. أوَليست هذه من أصول السلطة؟ بل بدا، أن الشغف بالسلطة غلَب الشغف بالتمرد، وأن الأفكار الكبرى والمواقف المطلقة، تخضع لنسبية الظروف وميزان القوى والصراع السياسي، والنفوذ…

في مقابلة مع الــ«ب.ب.س» في نيسان الماضي اعترضت «سو» على لقب «الأم تيريزا»: «أنا لست الأم تيريزا. كنت دائماً سياسية». وعندما سألها أحد الصحافيين: «ألا تخيفك كثرة التنازلات والتسويات منذ دخولك السلطة؟». وبكل وضوح ردّت: «أنا لا يهمّني كثيراً أن أكون أيقونة. أنا جاهزة لتوسيخ يديّ». ثم راحت تستشهد بوالدها الجنرال أحد أبطال الاستقلال في برمانيا، الذي كان يقود حزباً فاعلاً. هنا نفهم كثيراً من نواحي شخصيتها. فهي ابنة بيت عريق، والسلطة، والنفوذ، تجري في عروقها، تماماً كما كانت حال أنديرا غاندي، وبنازير بوتو.

ولهذا ففي الوقت الذي كان يعتبرها الغرب «مناضلة طلعت من الشعب، يعتبرها البرمانيون «الأميرة سو»! أميرة مناضلة.. ولمَ لا؟. هي مناضلة وسياسية؟ ولمَ لا! يمكن جمع الإثنتين: بحكمة الأولى وشراسة الثانية يمكن السير قُدماً، ومعاً، في اتخاذ مواقف تليق بالرسالتين، أو بالموقعين.

الحملة المجنونة

وعندما اندلعت الحملة المحمومة المجنونة ضد الروهينغا وارتكبت بحقهم المجازر بكل أنواعها، ذبح الأطفال، إعدامات ميدانية، إحراق منازل، وتهجير 500 ألف منهم، اكتشفت أوراقها، انعقد لسانها، لزمت الصمت، واختفت عن الأنظار! لا كلمة استنكار أو إدانة أو حتى مجرد احتجاج، رفعاً للعتب. سأل عنها العالم كله: أين «الأم تيريزا»، أين «العمّة سو»، أين شعاراتها المتمردة؟ شجاعتها، وعنادها، ودفاعها عن هؤلاء المواطنين (الذي يعتبرهم البرمانيون مهاجرين سريّين يجب اقتلاعهم. بلا هُوية، ولا تاريخ، ولا قيمة إنسانية؟). سأل عنها العالم، ولم يسمع جواباً. لا شيء. إنها الرئيسة اليوم، وعليها أن تزن الأمور بميزان مصالحها؛ وماذا يعني اجتثاث 500 ألف مواطن، ومطاردتهم، ليلجأوا إلى بنغلادش. أوَليسوا مهاجرين؟ وما الفارق عندها، بينها وبين جوقات الطغاة، والمثقفين والمناضلين في فرنسا أو انجلترا أو أميركا أو حتى سوريا، والعراق؟ انتفت المسافة بين الموقع السياسي والسلطة… سقطت أقنعتها وذابت قسماتها الشخصية. فصُعق العالم كله: فلتُنزع منها جائزة «نوبل للسلام». فلتدُرج في لوائح المتواطئين مع المجرمين والقتلَة ومُنتهكي حقوق الإنسان. «انكسرت أيقونتنا»، صرخ بعضهم. «خانتنا المناضلة»، صرخ آخرون. ملأت صورتها الجديدة «الملطّخة» شاشات العالم، وصدر الصفحات. إنها «المخادعة» الانتهازية، الوصولية، ولو على جثث مئات الألوف. انفضحت «العمّة»، وتهلهلت الأيقونة. وباتت من إرث آخر، من مستنبتٍ آخر، من هواجس السلطة بأي ثمن. أوَليست الانتخابات النيابية في 2020، فلتشتغل انتخابات إذاً. هذه المواقف السافرة، هل هي جديدة؟ المثقفون والمناضلون الذين ينقلون البندقية من كتف إلى كتف. وها هي في مسرى أمثالها: قبل عدة أيام انطلقت (أو أطلقت) تظاهرات عدة، من ألوف عدّة، تدافع عنها، في حديقة ماها باندولا دعماً لها. صرخة واحدة طلعت من أفواه هؤلاء المتطرفين، العنصريين «نحن ندعم أمّنا سوا» (صارت الأم سو.. أين الأم تيريزا)، ويهلّل لها إعلام السلطة والعسكر: «وسائط الإعلام الدولية هي التي تلفق أخباراً كاذبة عنها». والروهينغان يفبركون الأكاذيب. هم المسؤولون عمّا جرى (يعني هم ذبحوا وهجّروا أنفسهم!). محمّلين تبعات ما جرى منظمة «أركان روهينغا» المسلّحة، وهي جماعة إسلامية قامت في 25 آب الماضي بعمليات عنيفة ضد ثلاثين إدارة أمنية ومخفر، وسقط جراء ذلك 89 قتيلاً. ردّة الفعل عليهم مشروعة. «فليرحلوا». وأما الأجانب الذين ينتقدون «العمّة سو» (وهو اللقب المفخّم لسو)، فلا يفهمون شيئاً عن النظام البرماني!

وما هو النظام البرماني. وما هو دور سو فيه: السلطة في يد العسكر، حتى الاقتصادية والسياسية والعسكرية..، يحتلون 25% من مقاعد البرلمان من دون انتخاب. إذاً، سلطة سو لا شيء. ولا يمكن أن تؤثر في أي قرار سياسي أو غير سياسي. تُرك لها تولّي الأمور الميدانية والاجتماعية، أما الباقي فلا علاقة لها به. هذا هو النظام البرماني، الشبيه بالأنظمة التوتاليتارية الأخرى، حيث يلعب السياسيون والمثقفون والنقابات أدواراً هامشية.

أتراها ذريعة تبريرية لسو؟ العجز المطلق. وهناك الأمر الأهم، فسو تريد أن تجري تعديلات على الدستور. وهي في حاجة إلى الجيش، فبدونه لا تستطيع أن تقرّ برنامجها. فالأمر له: في البرلمان والحكومة. هذا من جهة، لكن، (كما يردّد بعض من يجدون لها أعذاراً)، هل تستطيع، من موقعها «الشعبي» أن تجذف عكس التيار؟ الشعب البرماني كله معبّأ وثائر على الروهينغانيين. جنون الشارع، عنفه. يعني أنّ عليها أن تجاريه، لتحكم (وأين؟)، وتطبّق إصلاحاتها! فمثل هذه الأحداث العاصفة يمكن أن تقتلها، مع ألقابها «الحسنى»، وأسطورتها، وقداستها! فمن قدّيسة السلم والدفاع عن الحقوق المدنية، إلى قدّيسة الشعبويّين والعنصريّين ومجانين «القوميات» المتطرّفة.

إذاً، هي غير مسؤولة عن شيء: جُرّدت من كل دور سوى محاذاة السلطة العسكرية «ببطشها» وإعلامها الرسمي، وتبريراتها: واحدة مع «الشعب»، وواحدة مع العسكر. صدَقَت عندما صرحت «أنها ليست أيقونة، بل كائن سياسي، ومستعدة لتوسيخ يديها!».

لا جديد لها

حكاية هذه «الأميرة»، وهذه المناضلة التي انقلبت على كل ما صنع هالاتها، ليست جديدة، لا في تاريخ المناضلين، ولا المثقفين، ولا المتمردين، ولا الحالمين، ولا أصحاب المواقف المناهضة للدكتاتوريات. والأدلة والشواهد كثيرة منذ فجر التاريخ حتى الآن. «فلنكن واقعيين»، وكفى كوابيس، ويوتيوبيات، وأفكار تغيير، ومشاكسة، ومواجهة مع الأنظمة الفاشية، ومع الجماهير الشعبوية، فلننضمّ إلى قافلة الواقعيين. والسياسة واقعية، ومصالح، وسلطة، ومال، وجاه، ولنلعب لعبة الجميع بدلاً من لعبة الاستثناء. لعبة الأقلية المختارة، لعبة الممارسات الطوباوية: أوَليس هذا ما يجري حالياً مع مثقفين يساريين، ويمينيين وتغييريين، من رافعي شعارات «الحقوق المدنية»، لنجد أنهم انحازوا إلى القطيعة الاجتماعية الكلية، إلى العنصرية: ميلانشون اليساري الراديكالي، يهلّل لماو، وبول بوت، وقبله، أراغون والويار والفيلسوف باديو يدبجون المدائح لستالين؟ وهل ننسى «الأخت تيريزا» البريطانية ماي ولعبة البريكست، التي استخدمت كل الأساليب الشعبويّة والديماغوجيّة، لتضلّل الناس، وليختاروا موقف الخروج من الاتحاد الأوروبي. وماذا عن «لوبن» الطالعة من مناخات الكراهية، والعرقية، تجعل معاداة المسلمين (من دون تمييز بينهم وبين الإرهابيين والمهاجرين) وترفع شعارات الانطوائية، والقومية المتطرفة، والخروج من أوروبا؟ وماذا عن ترامب؟ و«أميركا أولاً» بالمعنى الانعزالي، والتحريض على المهاجرين المسلمين والمكسيكيين… وماذا عن مثقفينا «الكبار»؟ من شعراء ومفكّرين ويساريين، ألم ينضموا أثناء الحروب المذهبية في لبنان، إلى طوائفهم، ماسحين أفكارهم، وكأنّها طلاء وأصباغ وأقنعة. تخلّوا عمّا صنع أحلامهم، وربما علّة وجودهم؛ وقبلها، وفي ظل حكم الطغاة، ألم يسلّموا «أسلحتهم» الإيديولوجية، والفلسفية، والفكرية، والشعرية، والسياسية إلى هؤلاء القتلَة، فانحازوا ضد شعوبهم المقهورة، وبرّروا للدكتاتوريين كل جرائمهم، وفسادهم؛ ولقاء ماذا: حفنة من المال، وحفنة من السلطة، أو بضع وظائف هنا، أو مناصب هناك!

واليوم، ما علينا سوى أن نتابع التلفزيونات ونقرأ بعض الصحف، لنجد «ضمير الأم سو»، متغلغلاً في مسالك هؤلاء، وفي خيانتهم حتى لوطنهم، ودستورهم ودولتهم. ومنهم مَن كان يهتف «يا حرية نحن رجالك»، «فليسقط الدكتاتوريون» «ولنرفع شعار الدولة المدنية»، و«نشهر راية الحرية»… و«السيادة والاستقلال». كل هذه الكلمات الرنانة انطفأت في حناجر أصحابها، ليسحبوا من زلاعيمهم، نقيضها: الولاء لإيران، الولاء لبشار الأسد، الولاء لوطن آخر… وهكذا دواليك، فالمقاومون السابقون للاحتلال الإسرائيلي، ها هم يقاومون شعبهم، ويسعون إلى تسليم بلادهم لدول تسعى إلى السيطرة على أرضهم. حتى وصل ببعضهم الأمر إلى المناداة علناً بضم جزء من لبنان الشمالي وحدوده إلى سوريا الأسد، وإلغاء «سايكس بيكو»، الذي «ضمّ هذه المناطق إلى لبنان».. اخترعوا «مزارع شبعا» لإبقاء سلاحهم موجهاً إلى الداخل، ثم إلى العرب، مسلحين بالشعوبية، والمذهبية، ومقودين بخرائط تقسم البلد. هؤلاء أثناء فترة مقاومتهم، كانوا يدعون تحرير الجنوب. اليوم يعملون على تحرير سوريا والعراق واليمن من شعوبها ومن دولها! الخديعة ذاتها: صار بعض قيادات الحزب «أيقونات» المقاومة ضد إسرائيل (كما «العمّة سو») ثم انكسرت هذه الأيقونات، وذابت تلك الأساطير لنكتشف أن كل ذلك كان وسيلة للانقلاب على لبنان، وعلى دستوره، وتاريخه ووجوده. خدعنا حزب الله، كما خدعتنا الميليشيات التي سبقته، وكما خدعنا زعماء، ومثقفون، وكتّاب، ومفكّرون…

حومان التاريخ

فالتاريخ، كأنه يحوم حول نفسه، في حركات متتابعة متشابهة، مرة على شكل تراجيديا ومرات على شكل مهازل دموية. «فالأسطورة سو»، وأيّاً كانت التبريرات، ليست جديدة علينا لا بتحوّلاتها، ولا بخداعها، ولا بشيزوفرانيتها، أو فصامها، كأنما هذه هي صورة العالم الحقيقية: القناع يتغلب على الوجه، والخديعة تهزم الحقيقة، والسياسة ومصالحها تسفح الأفكار، والأحلام. فلا بأس يا «انطيغون برمانيا»… فأنت جزء من خراب هذا العالم. جزء من موت روحه، وأحلامه، ومقاصده.

أنت تكتبين التاريخ الميّت. ومَن قال إن التاريخ يجب أن يكون حيّاً! وُلد التاريخ ليموت بين أيدي الانتهازيين والطغاة وصُنّاع المآسي، وخيانة الشعوب.