IMLebanon

ثلاثة مشاهد لبنانيّة اصطحبت مشهديّة سقوط نظام الأسد في سوريا.

 

مقامات وراهبات ومعتقلات

 

المشهد الأول هو خروج معتقلين لبنانيين من المسالخ البشريّة البعثيّة، بعدما كان الرئيس السابق ميشال عون قد نفى وجود أي أسير لبناني في سجون النظام.

 

المشهد الثاني هو للمقامات الدينيّة الشيعيّة، وأبرزها مقام السيّدة زينب في دمشق، وهو يعجّ بالزائرين اللبنانيين من مختلف الطوائف الذين توافدوا إلى الموقع الذي لم يصبه أي أذى على الإطلاق.

 

كان اللبنانيون  ولسنوات، يستمعون إلى خطابات السيّد نصرالله الذي شرعن قتال “حزب الله” في سوريا على قاعدة حماية المقامات من التنكيل والتدمير، تحت شعار “لن تسبى زينب مرّتين”.

 

 

 

المشهد الثالث هو لراهبات مسيحيات في معلولا، وهنّ يتحدّثن للإعلام عن شعورهنّ الطبيعي بالاطمئنان بعد سيطرة الفصائل السورية المسلّحة على المنطقة. وقد اجتهد “الحزب” وحلفاؤه لسنوات في تفصيل طبيعة “المجازر” التي ستحلّ بالمسيحيين فور سقوط “النظام العلماني” في سوريا. مع هذه المشهديات الثلاث، سقطت سرديّة مكتملة لمحور الممانعة بفرعه اللبناني، التي قامت على تخويف اللبنانيين من “المجهول”، و طمأنته إلى “المعلوم”.

 

استثنائيّة هي كميّة الأساطير التي بنى عليها محور الممانعة شرعيّته الزائفة، وقد قامت جميعها على قاعدة سيكولوجيّة عنوانها “تجارة الخوف”. وتتميز هذه التجارة بطبيعتها الغرائزية، بحيث أن الخوف هو المعطّل الأول للعقل البشري. لا مكان فيها للمساءلة، أو للتدقيق، أو للبحث عن أدلّة، خصوصاً إذا ما كان هذا الخوف مرتبطاً بمسألة هوياتيّة، لا يستطيع الإنسان تغييرها أقلّه بنظر مصدر الخوف المفترض. لذلك لا يحتاج المشروع السياسي القائم على “تجارة الخوف” إلى رؤية أو برنامج عمل.

 

يكفي أن يقنع جمهوره، أو “بيئته”، بأن هناك “خطراً” وجودياً عليهم، فيجدهم مستعدين لـ”قطع البحر” معه. ومن بين كل الأحزاب اللبنانيّة، تميّز حلفاء “مار مخايل”، أي التيار العوني و “حزب الله”، بشراكتهما في هذا المسعى التجاري، خصوصاً لتبرير العلاقة الوطيدة مع الرئيس السوري المخلوع بشّار الأسد.

 

 

 

مع سقوط الأسد وسقوط الأساطير الثلاث، انتقل المحور مباشرة إلى المرحلة الثانية من “تجارة الخوف”. لم يعد الكلام عن “مجازر” قادمة، ولا عن مقامات “ستهدم”، بل أصبح التركيز على السياسة التي سيتّبعها الحكم الجديد في سوريا بخصوص الحريات الاجتماعيّة والقضايا الثقافيّة. بعد المقامات والراهبات والمعتقلات، حان وقت الأغنيات. وقد أثارت تلاوة مجموعة من المقاتلين الإسلاميين أناشيد دينيّة على التلفزيون السوري الرسمي موجة اعتراضات داخل المحور على اعتباره مؤشّراً إلى “أسلمة” سوريا.

 

 

 

أين أغنياتك يا فيروز! ولعلّ هذا الاعتراض كان ليكتسب شرعيّة لو صدر عن أحد المعارضين السوريين الليبراليين – وما أكثرهم – إلا أنه صدر عن وجوه لبنانيّة حليفة لتنظيم إسلامي يعتبر من بين الأكثر راديكاليّة في العالم. هل شاهد هؤلاء يوماً قناة المنار؟ هل تسنى لهم سماع رئيس كتلة “حزب الله”، وهو يتحدّث عن مرتادي المراقص؟ هل شاهدوا السيد حسن يتحدّث عن موجبات منع الموسيقى، على اعتبارها تتسبب بـ “المياعة” داخل المجتمع؟ إن أسوأ السيناريوات السورية المرتقبة لا يمكنها إلا أن تكون أكثر انفتاحاً وتقدمية من النموذج اللاحضاري الذي سعى “حزب الله” لفرضه على مجتمعه، قبل أن يكتشف استحالة التجربة وينتقل تدريجياً من الترهيب إلى الترغيب.

 

 

 

حان الوقت لبنانياً لإغلاق “مصانع الخوف”، تماماً كما أغلقت “مصانع الأوهام” عند توقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، وكما أغلقت مصانع الكبتاغون في سوريا عند سقوط الأسد. هي مصانع الممانعة الثلاثة، التي حكمت بها لبنان وسوريا في العقدين الأخيرين. لم يعد أحد يصدّق (حتى أعتى الممانعين) أن “حزب الله” سيحرر القدس، أو سيدخل إلى الجليل، أو حتى يمنع الاعتداء الإسرائيلي على لبنان.

 

 

 

لم يعد ماهر الأسد يستطيع (بالتعاون مع “حزب الله”) أن يموّل الجهد العسكري القمعي في سوريا من تصدير الحبوب المخدّرة، التي كشفت مصانعها “المذهلة” فور هروب “الفرقة الرابعة”، كونها أول دولة تصنّع فيها المخدرات بإدارة مباشرة من السلطات الرسميّة، متجاوزة بذلك التعريف التقليدي لمفهوم الـ narco-state، والذي يطلق على الدول التي تخضع في المؤسسات الرسمية لنفوذ عصابات الاتجار بالمخدرات. صحيح أن “مصنع الخوف” قلّ انتاجه تلقائياً مع انكشاف طبيعة “البضاعة” البالية إقليمياً، لكنه بقي يعمل محلياً، وأبرز صناعاته القديمة – الجديدة، الخوف على مصير الشيعة في مرحلة ما بعد السلاح، شأنهم شأن راهبات معلولا أيام حكم جزّار صيدنايا.