IMLebanon

سقوط التسوية حتمي بسقوط شروطها

 

غادر الرئيس سعد الحريري إلى مكة لتمثيل لبنان في القمّتين الإسلامية والعربية، مثقلاً بكمّ كبير من العبث السياسي والتجاوزات التي طغت على جلسات الموازنة العشرين. في مكة أطلقت كلمة الرئيس العنان لتصريحات الأمين العام لحزب الله الذي اعتبر أنّ ما أدلى به رئيس الحكومة يعبّر عن رأيه ولا يعبّر عن رأي الحكومة اللبنانية، لتنهال بعدها سلسلة من التصريحات والتغريدات تولاها وزير الخارجية جبران باسيل الشريك المفترض لرئيس الحكومة في التسوية الرئاسية، وتعرّض عبرها للموازنة والمدير العام لقوى الأمن الداخلي والنازحين السوريين – مع ما تلاها من إجراءات ميدانية في دير الأحمر وعرسال قد يكون لها تبعاتها أمام المجتمع الدولي – وانتهاءً بالتعرض للدول الخليجية من باب ادّعاء الحرص على اليد العاملة اللبنانية.

 

ليست هذه المرّة الأولى التي يُحرج فيها الوزير باسيل رئيس الحكومة سعد الحريري، فقد سبق له أن سجّل جملة من الأهداف على حساب صلاحيلات الرئيس ودوره عبر استحقاقات إدارية وسياسية وحكومية عديدة. ولكنّ الجولة الأخيرة كانت الأقسى بحيث أظهرت حجم الخديعة في الشراكة المزعومة، وحجم الأضرار التي ستخلّفها على موقع رئاسة الحكومة بعد انتهاء مفاعيل التسويّة، مما استدعى تدخّل رؤساء الحكومات السابقين ودار الفتوى. كل ذلك دون أن يرف للوزير باسيل أي جفن بل على العكس، جاهر الوزير بدور الندّ لرئيس الحكومة عبر إرسال الموفدين من تياره الى دار الفتوى، أو لزيارة فعاليات مدينة طرابلس وعبر تصريحاته على طريقة «العذر الأقبح من الذنب». مبررات فريق رئيس الحكومة ومحاولة التغطية والتعالي على الاستخفاف والتجاهل بدت باهتة ودون أي وقعٍ قادر على تعديل الموقف.

 

غاب رئيس الحكومة عن أي ردّ فعل إزاء كل ما يحصل، وكأنّه في خلوة مع الذات لتقييم الموقف ومحاولة الحدّ من الخسائر المتلاحقة. التسويّة الرئاسية التي كان يعوّل عليها في تكوين السلطة أضحت تسويّة على تجاوز الدستور. وجود رئيس الحكومة في الرياض يرفع من حراجة موقفه أمام المملكة التي تتعرّض عبر لبنان لاعتداءات من قِبل حزب الله وفريق رئيس الجمهورية، وهي لا شك تقوم بدورها بتقدير الموقف من جديد، بعد انهيار مرتكزات التسويّة الرئاسية، لوضع الخيارات إزاء ما يجري في لبنان في ظل الصراع المفتوح مع إيران في الخليج واليمن والعراق واحتمالات التصعيد المفتوحة. السؤال الذي أضحى مطروحاً بقوة لدى أكثر من فريق سياسي لم يعد يتوقف عند التسويّة الرئاسية وشروط ترميمها واستمرارها، بل عند إمكانية استعادة الحدّ الأدنى من الهيبة والقدرة على وضع جدول الأعمال وفق ما يفرضه الدستور وترؤس وإدارة جلسات مجلس الوزراء، لا سيما مع التعيينات المرتقبة والاستحقاقات الحكومية مع المنظّمات الدولية وفي ظلّ الاحتدام المبكر للمعركة الرئاسية.

 

قد تفترض الواقعية السياسية العودة الى الظروف الإقليمية والدولية التي أخرجت التسويّة الرئاسية، والبحث عن حقيقة استمرارها وبالتالي عن صلاحية هذه التسوية وقابليتها للاستمرار. التسوية الرئاسية في لبنان وانتخاب العماد ميشال عون بتاريخ 31 أكتوبر 2016 حصل بتوافق إقليمي شكّلت طهران أحد أطرافه، بعد أن كانت كلّ الدلائل تشير الى فوز هيلاري كلينتون في الانتخابات الأميركية، وبالتالي استمرار الديمقراطيين في السلطة، مما يعني استمرار الصعود الإيراني في المنطقة واستمرار مفاعيل الاتّفاق النووي بموافقة أميركية. وصول الرئيس دونالد ترامب المفاجئ في 8 أكتوبر شكّل الاختبار الحرِج الذي لم تستطع التسوية اجتيازه لعدم التزام الفرقاء السياسيين بسياسة النأي بالنفس. خروج الولايات المتّحدة من الاتفاق النووي وما تلاه من تطبيق للعقوبات على طهران، والتحالف الأميركي مع دول الخليج العربي والعجز الأوروبي عن تعديل الموقف الأميركي يظهر بوضوح تصميماً متناميّاً لدى الولايات المتّحدة لتعديل الدور الإيراني في المنطقة. التصاعد في الموقف الأوروربي حيال طهران ودورها في تهديد الاستقرار وآخره ما كشفت عنه صحيفة «تلغراف» عن اكتشاف قوات الأمن البريطانية لمصانع متفجرات تابعة لحزب الله في ضواحي لندن، يؤسّس لمرحلة جمع القرائن التي تُدين طهران، ويؤسّس لدور بريطاني متقدّم في دعم الموقف الأميركي، ويضعف من قدرة أوروبا في الخروج عن القرار الأميركي لا سيما بعد خروج بريطانيا من الاتّحاد.

 

لا يمكن التكهن بتوقيت عودة الرئيس الحريري من الرياض، ولكن يمكن القول أنّ الرئيس الحريري بما يمثّل من مشروع سياسي عنوانه اتّفاق الطائف، وبما يمثّل من موقع عربي عنوانه التزام ميثاق جامعة الدول العربية وإصرار على التمسّك بالرعاية الدولية لاستقرار لبنان أمنياً واقتصادياً، يُدرك تماماً أنّ التسوية السياسية قد تمّ الانقلاب عليها، وهي إن كانت في لحظة إنتاجها تمثّل أفضل الممكن فقد فقدت صلاحيتها ومقوّمات استمرارها بسقوط شروطها ولم يعدّ من الممكن إعادة إنتاجها. هذا في الوقت الذي تخوض فيه المارونية السياسية الجديدة آخر معاركها في مواجهة حقائق التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع وبحثاً عن حلم أضحى سراباً.