أي تأثير لسقوط النظام على الدولتين؟
يغفو أهل الشرق طويلاً على وسادة الطغاة. قحط وسنوات عجاف تمرّ، قبل أن يتحنّن التاريخ عليهم بعطوفة فُرَصِه النادرة. ويفتح أمامهم نافذة النجاة والهروب صوب الحياة. إن أحداث فجر الأحد الدمشقي، تُحال إلى عناوين الأزمنة، إلى جدرانيات نهر الكلب. فالأسد “المُستأسد” ببراميله الكيماوية وعضلات حلفائه، سقط. تهاوى عرشه. طُحن “ذو النابَيْن” اللذين أوغلهما قتلاً ودماءً ووحشية من أرض الياسمين إلى بلاد الأرز. دُفن “البعث” في عقر داره، تفكّكت المعادلة السوداء “المسار والمصير”، المتجدّدة إيرانيّاً بـ”محور الممانعة ووحدة الساحات”. ومع رحيله تصبو الآمال نحو آفاق جديدة في العلاقات بين جارتي الجغرافيا والمعاناة. وحتى انبلاج ملامح المرحلة الانتقالية الشاميّة، التي قادتها “هيئة تحرير الشام” والتنظيمات المعارضة الأخرى، وتَكَشّف الخيط الأبيض من الخيط الرمادي، يبقى السؤال: كيف ستتعاطى الدولتان من الناحية القانونية إزاء الواقعين السياسي والميداني في سوريا؟ وهل يهدّد سقوط النظام الأسدي علاقة البلدين؟
يُحدّد العلم السياسي مفهوم الدولة بثلاثة أقانيم أو مرتكزات بنيويّة: الإقليم (الحيّز الجغرافي/ الحدود)، الشعب والسلطات الدستورية. أما تَبَدُّل الحكم أكان عبر الوسائل الديمقراطية كالانتخابات، أو “التحوّل الشعبي” والمتمثّل بالانتفاضات والثورات، أو التوريث في الأنظمة الملكية الدستورية، فلا يعني زوال الدولة. إذ “يجب التمييز بين الأخيرة والسلطة، كمدخل أساسيّ لفهم الإشكالية المطروحة”، وفق أستاذ العلاقات الدولية د. رئيف خوري. ويشير إلى أنّ “قوّات المعارضة بقيادة أحمد الشرع (المعروف بالجولاني)، صانت المؤسسات الحكومية، حيث استكملت الوزارات والمصرف المركزي السوري وغيرها من الإدارات والمرافق العامّة أعمالها الاعتيادية. كما حافظت على المدنيين في المؤسسات العسكرية التي كانت تابعة للنظام السابق. واللافت أيضاً في هذا السياق، أن رئيس الوزارء السوري محمد الجلالي رافق الانتفاضة العسكرية، والانتقال غير الدموي للسلطة، ما يُشبه مراسم التسليم والتسلّم”.
إضافة إلى ذلك، وانطلاقاً من القانون الدولي، يقول خوري إنّ “سوريا لا تحتاج إلى إعادة الاعتراف بها، كونها موجودة أصلاً ومعترفاً بإقليمها وحدودها الجغرافية، وشعبها المُصان بكلّ فئاته ومكوّناته، ما يعني أنّ عناصر الدولة مُثبتة ومتماسكة، وأنّ العلاقات الدبلوماسية بين بيروت ودمشق قائمة، حتّى لو تبدّل النظام، وأي تغيير أو تبديل في الاتفاقيات الثنائية بين البلدين، أكانت سياسية، أمنية، اقتصادية أو تجارية، تخضع للأطر والأصول القانونية والدستورية التي ترعى العلاقات الدولية”.
في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى بيان وزارة الخارجية اللبنانية الذي شدّد عقب سقوط نظام بشّار الأسد، على “رغبة لبنان ببناء أفضل العلاقات مع الدولة السورية وممثليها، بما يحفظ المصالح المشتركة للبلدين”، معلنةً أنّ “لبنان يحترم إرادة الشعب السوري حيث يعود له وحده اختيار ممثليه، ونظامه السياسي، ورسم مستقبل بلاده مع تأكيد أهمية علاقات حسن الجوار بين لبنان وسوريا”.
ولعلّ الدليل الأبرز على استمرار العلاقات بين الدولتين، هو البيان الصادر عن السفارة السورية في بيروت، ورفع علمها الجديد، حيث اعتبرت أنّ “انتصار الثورة شكّل إشراقة أمل لشعبنا بكلّ أطيافه، وأنهت عهداً مظلماً ملؤه الدمار، والفساد، والتضليل، والشعارات الفارغة قادته طغمة حاكمة، مستبدّة، جرّدت سوريا من كفاءاتها الوطنيّة، وحياتها السياسيّة، والمدنيّة، عهدٌ عانى منه جميع المواطنين بمختلف مكوناتهم”.
هذه المفردات التي لم يألفها الشعبان، تحمل معانيَ سياسية ومعنوية وحتى تاريخية. إنّها المرّة الأولى منذ نصف قرن من العسكرة والقمع، لا مكان بعد الآن لـ”البعث”، الذي عبث بحدود البلدين وأمنيهما واستقرارهما. كما أنّ التعاون والتنسيق بين الجانبين (اللبناني والسوري) يتواصل عند الحدود والمعابر الشرعية مع تسهيل حركة مرور النازحين السوريين إلى بلادهم، إضافة إلى توافد الإعلاميين اللبنانيين لمواكبة الحدث الأهم، المُضاف إلى سلّة المتغيّرات الجذرية التي تشهدها المنطقة منذ هبوب طوفان الأقصى، حيث جرف معه محاور وتنظيمات وأنظمة وطغاة وأيديولوجيات.