يستعد المشرق العربي بعد دحر «داعش» لمرحلة جديدة من المواجهة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وإيران وأذرعها في المنطقة من جهة أخرى. في وقت لا يجد «التنسيق» القائم بين موسكو وواشنطن ترجمة فعلية. صراع الإرادات والمشاريع يرسم صورة قاتمة في كل ساحات القتال المشتعلة وتلك المرشحة للإنفجار. المأزق الذي يواجهه اللاعبون الفاعلون في المنطقة يزداد استعصاءً. ولا شك في أن حركتهم الديبلوماسية وما رافقها من تصريحات ومواقف لم تثمر تفاهمات جديدة على مرحلة ما بعد القضاء على «تنظيم الدولة»، خصوصاً في كل من العراق وسورية. بل ربما كان استعجال بعضهم تكريس الأمر الواقع الجديد في الإقليم مثار غضب آخرين. ويعجل في دفعهم إلى تغيير قواعد اللعبة، ومعها تعديل ميزان القوى في الشرق الأوسط كله. وهو ما يرفع سقف التوترات، ويفاقم خطر اندلاع حرب واسعة قد تكون البديل الوحيد لدفع الجميع إلى طاولة الحوار على صفيح ملتهب.
استقالة سعد الدين الحريري ليست الخطوة الأولى والأخيرة في صورة مشهد استراتيجي مختلف بدأ يتشكل، من العراق وكردستانه إلى سورية وجولانها ولبنان و»حزبه»، ففلسطين وجناحيها. تأتي في إطار اصطفافات جديدة وخلط أوراق يفرضهما هذا المشهد. اقترب أوان طي صفحة معظم التفاهمات التي فرضتها الحرب الكونية على الإرهاب، ولا بد من إعادة تموضع لمواكبة السياسات الدولية والإقليمية في هذه المرحلة. لم يعد لبنان بمنأى عن خريطة المواجهة الشاملة التي تقودها أميركا وحلفاؤها من العرب على إيران و»حزب الله». فرض الكونغرس وعواصم خليجية عقوبات على الحزب. ولن ينجو اقتصاد البلد الصغير من تداعيات هذه العقوبات. ولا تكف إسرائيل عن التلويح بأبعد من سلاح الغارات على مواقع في سورية. وتصر على إقامة منطقة عازلة تبعد بموجبها الجمهورية الإسلامية وحلفاءها عن حدودها الشمالية… إلى حدود العاصمة دمشق. رحبت باستراتيجية الرئيس دونالد ترامب حيال طهران، ولا تزال تصر على موسكو لتوسيع هذه المنطقة. في حين يعمل «الحرس الثوري» والميليشيات السورية على التقدم نحو خطوط وقف النار في جنوب سورية. ويتباهى الرئيس حسن روحاني بأنه لا يمكن القيام بأي خطوة مصيرية في العراق وسورية ولبنان والخليج العربي وشمال أفريقيا من دون إيران. حيال هذين «الاشتباكين» الاقتصادي والعسكري، لم يعد مسموحاً لزعيم تيار المستقبل أن يبقى محايداً، أو أن يسلّم بانزلاق بلاده إلى معسكر طهران بفعل قوة «حزب الله» وهيمنته على القرار. لا يمكنه أن يوفر غطاء رسمياً حكومياً للحزب وسياساته المحلية والإقليمية ودوره العسكري في أكثر من ميدان. أو أن يتحمل مسؤولية انهيار اقتصاد لبنان بفعل العقوبات، أو تداعيات أي حرب قد تشنها إسرائيل على حدوده وفوق أرضه كلها، مع تكرار دعوات في تل أبيب إلى مثل هذه المغامرة. وكان لافتاً أن طهران علقت سريعاً على استقالة الحريري الذي أخذ عليه بعضهم أنه لم يكن موفقاً في إخراج خروجه من السراي مما أثار انتقادات وتساؤلات. ووضعت هذه الاستقالة في سياق اتهامات إسرائيل والسعودية وأميركا «الباطلة» لإيران. وعدتها «مؤشراً إلى أن استقالته سيناريو جديد لخلق توتر في لبنان والمنطقة».
لبنان يدخل مجدداً مرحلة استعصاء عامة في الإقليم. ففي العراق ينذر تصعيد الخطاب السياسي بين بغداد وإربيل بمواجهات عسكرية. في مقابل العناد أو الغرور الذي أبداه مسعود بارزاني لإجراء الاستفتاء، دفعت التداعيات التي خلفتها الأزمة وما حققه الجيش العراقي و»الحشد الشعبي» من تقدم على الأرض، الحكومة المركزية إلى مزيد من التشدد مع شيء من الغرور أيضاً ونشوة النصر الميداني. وتتحاشى الإدارة الأميركية ممارسة ضغوط كبيرة على بغداد للذهاب نحو الحوار بعد استقالة رئيس الإقليم وقيام إدارة بديلة توزعت صلاحياته. فهي تحاذر الإخلال بعلاقاتها مع الطرفين. لا ترغب في إحراج رئيس الحكومة حيدر العبادي خوفاً من إضعاف موقفه فيما القوى العراقية، خصوصاً في الصف الشيعي، تخوض معركة مبكرة على الانتخابات النيابية العامة المقررة الربيع المقبل. وهي تراقب بقلق تأثير خطاب المتشددين في «دولة القانون» الذين ينادون بوقف التعامل مع الحكومة الكردية، والتوجه نحو القادة الذين سهلوا الأمر للقوى العسكرية التي دخلت كركوك والمناطق المتنازع عليها من دون قتال. يخشى هؤلاء المتشددون أن تبدل تركيا موقفها بعدما تغير المشهد برحيل مسعود بارزاني، خصوصاً أن «خليفته» نيجيرفان بارزاني، ابن شقيقه، عبر عن رغبته في زيارة أنقرة. ولم تقفل هذه الباب بل تركت الأمر إلى الوقت المناسب. إذ لا يغيب عن بالها أن الرئيس السابق للإقليم وفر لها نفوذاً وفتح لها منافذ سياسية وعسكرية واقتصادية على كل العراق. ولا يمكنها تالياً الذهاب بعيداً إلى حد خسارة كل ما بنت مع إربيل لمصلحة الجمهورية الإسلامية. وهي تنظر بعين الريبة إلى اعتراض هذا الحليف اللدود على انتشار قواتها في ادلب ومناطق جنوب غربي حلب.
إلى ذلك، لا يمكن واشنطن أن تسمح لتشدد الحكومة العراقية بأن يودي بالتركيبة السياسية القائمة في كردستان خوفاً من توسع هيمنة إيران من السليمانية إلى إربيل. أبعد من ذلك لا يمكنها المجازفة بخسارة الكرد فيما تستعد لمواجهة واسعة مع طهران. تضع في جدول حساباتها الرهان على الإقليم موطىء قدم مضمون إذا تعذر عليها تحرير القرار في بغداد من قبضة الجمهورية الإسلامية. ولا يسعها أيضاً أن تتجاهل الأصوات من داخل الكونغرس ومراكز الفكر والأبحاث، وأن تتعامى عن حملات دوائر إعلامة وسياسية على سياسة إدارة الرئيس ترامب حيال أزمة كردستان. وهناك من يحملها مسؤولية معنوية عما حل بالإقليم، ويأخذ عليها عدم الوفاء بالضمانات التي وفرتها للكرد أثناء كتابة الدستور وترتيب قيام النظام الجديد بعد غزو العراق.
ولا يبدو أن الأزمة في سورية تقترب من تسوية سياسية، كما تبشر روسيا. وكان محيراً فعلاً هذا التخبط أو التسرع في دعوة موسكو الأطراف المتصارعين في هذا البلد إلى سوتشي. أخذ المعنيون بالأزمة على الرئيس بوتين أنه دعا إلى «مؤتمر لشعوب سورية» في حميميم. ثم ارتأى أن تكون سوتشي مكاناً لاستضافة «مؤتمر الحوار الوطني». وبعد موجة الرفض الواسعة من أطياف المعارضة لهذا المؤتمر، يمكن وصف دعوة الكرملين بأنها متهورة، أو أنها ورطة أو نكسة سياسية غير محسوبة إلى آخر هذه الأوصاف. إلا أن الرئيس بوتين ليس بهذه الخفة. إنه يستعجل فرض رؤيته للتسوية. كشف أخيراً رغبته في التخلص نهائياً من الشراكة الدولية ودور الأمم المتحدة. لم يعد ثمة مجال لتعدد المسارات، من جنيف إلى آستانة وغيرهما. ولا تشير الاستعدادات لهذا المؤتمر مثلاً إلى «مرحلة انتقالية» نصت عليها القرارات الدولية الخاصة بسورية. ثمة ثلاثة عناوين للحوار هي أصلاً من مهمات الحكومة أو الجسم الانتقالي، وهي الإصلاح السياسي وقيام هيئة دستورية لوضع دستور جديد، والاعداد لانتخابات نيابية ورئاسية. تريد موسكو استباق واشنطن التي تستعد قريباً لإعلان سياستها في بلاد الشام. وستكون حتماً في سياق ما أعلنه الرئيس ترامب حيال المنطقة ودور إيران فيها. وتستعجل موسكو طي صفحة جنيف وبياناتها. وبعدها طي صفحة آستانة، خصوصاً أن الجولة الأخيرة أظهرت اعتراضاً إيرانياً على انتشار قوات تركية شمال سورية. كما أنها لا تخفي استياءها من رفض النظام في دمشق وطهران عناوين الحوار، خصوصاً الدعوة إلى انتخابات برعاية دولية، وإصرارهما على «النصر» الكامل. علماً أن واشنطن ترفض صيغة غالب ومغلوب.
تخشى موسكو بلا شك أن تحمل التطورات الأخيرة، وصراع الإرادات المحتدم بين جميع اللاعبين في الإقليم، أن يعرقل سعيها إلى تأهيل النظام وتغييره من الداخل، وليس تبديله كما ينادي الأميركيون وحلفاؤهم في أوروبا والمنطقة. صحيح أن إدارة ترامب لا تزال تحض المعارضة على المشاركة في كل اللقاءات السياسية لحل الأزمة، وتؤكد على التفاهم مع الروس في بلاد الشام. لكن الصحيح أيضاً أن الواقع لا يعكس هذه الصورة نهائياً. فالطرفان لا يكفان عن تبادل اتهامات خطيرة بدعم الإرهاب. موسكو تتهم واشنطن بمساعدة «داعش». وترد هذه باتهامها بغض النظر عن «جبهة النصرة» في إدلب، وبإفساح المجال أمام تركيا لترتيب خفض التوتر و»تذويب» الجبهة في إطار إدارات محلية لهذه المحافظة. ومن نافل القول أيضاً أن لا تفاهم أميركياً – روسياً في باقي الأزمات الدولية من أوكرانيا إلى كوريا الشمالية مروراً بأوروبا. وقد تفاقم التطورات القضائية الأخيرة في قضية تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية التوتر بين الدولتين وتقضي على آخر أمل في تطوير العلاقات بينهما. إضافة إلى ذلك تخشى موسكو أن تؤدي سياسة إسرائيل وغاراتها على مواقع في سورية إلى إندلاع حرب مفاجئة تعيد خلط كل الأوراق في بلاد الشام. وقد يكون من مصلحة حكومة نتانياهو الدخول في حرب تطيح بما تحقق في غزة، وبما أنجزت وتنجز إيران في المشرق العربي كله. وتساهم في ضرب ما يبقى من سياسة التفاهمات التي سادت الإقليم، من لبنان إلى سورية والعراق.