عاكست السياسات المالية التي اتُبعت حتى الان، أصول وأسس الهندسة المالية السليمة، وكسرت قواعدها. وبالتالي، اصطنعت استقراراً وهمياً وقنبلة موقوتة قابلة للانفجار في وجه اللبنانيين عند أول مطبّ، كما شهدنا مؤخراً.
خلال السنوات الماضية، حرص مصرف لبنان على وضع ضوابط شديدة على المصارف اللبنانية من جهة الحدّ من توظيف الودائع في استثمارات يعتبرها “خطيرة” والتي هي بطبيعة الحال ذات مردودات متوسطة ومرتفعة، كالأدوات والمشتقات المالية العالمية على أنواعها. إضافة إلى فرض نسبة احتياط إجباري يصل إلى حد الـ25% من الإيداعات لدى مصرف لبنان وهي من النسب الأعلى في العالم.
دفعت هذه السياسات (over – protective policy) المصارف اللبنانية إلى إدمان المردودات البراقة الناتجة عن الاستثمار في سندات الخزينة اللبنانية، اليوروبوند، وقروض الدولة اللبنانية. وبالتالي، تغاضت عن القاعدة الأولى والأساس للاستثمار المالي والتي توصي بتوزيع المخاطر والمتعارف عليها عالمياً بمصطلح “لا يضع المزارع كلّ ما يملك من بيض في سلة واحدة”.
لقد وجدت الحكومات المتعاقبة في هذه المحفظة كنزاً ثميناً لتغطية عجزها وهدرها على مدى السنين. في المقابل، كانت المصارف تراكم أرباحاً طائلة (رقمية وليست فعلية) من خلال الاستثمار المفرط في الدولة اللبنانية بدل الاتجاه نحو استثمارات متنوعة ومربحة كما تفعل كلّ مصارف العالم الرأسمالي.
يشير تحليل اللوائح المالية للمصارف اللبنانية، المنشورة من جمعية المصارف، إلى أن المصارف استثمرت 65 مليار دولار من الإيداعات (حوالى نصف الودائع بالعملة الأجنبية) بطريقة أو بأخرى في الدولة اللبنانية من يوروبوند وقروض، واحتياطات لدى مصرف لبنان.
الأخطر في هذا الوضع، انّ هذه الاستثمارات تنامت لتشكّل ما قيمته ثلاثة أضعاف رأس مال المصارف اللبنانية المقدّر بـ20 مليار دولار. في عالم الأموال يعتبر المصرف مفلساً عندما تتجاوز خسائره قيمة رأس المال وبالتالي إنّ أيّ تعثر ولو جزئي للدولة اللبنانية في إعادة هذه الاستثمارات سيتسبّب بإفلاس المصارف وفرض ما يسمّى الـ hair cut وبالتالي، خسارة الناس لجزء من ودائعهم.
في بحث دقيق ومفصّل للوائح المالية والميزانيات لكل مصرف لبناني على حدة يتبين أن بعض المصارف أصبح في دائرة الخطر بسبب الاستثمار المفرط في الدولة اللبنانية بما يتجاوز نسبة 150% من رأس المال.
على سبيل المثال لا الحصر، اذا كان رأس مال أحد المصارف يبلغ مليار دولار بينما وظّف المصرف 3.5 مليارات دولار في اليوروبوند وشهادات الإيداع بالدولار (CDs) فهذا يعني انه تجاوز رأس المال واستخدم أموال المودعين. وفي حال تعثّر الدولة اللبنانية في إعادة هذه الاستثمارات بالعملة الأجنبية سيُمحى رأس المال ويلتهم من أموال المودعين، تبعاً لحجم التعثر.
على عكس ما يشاع، لا يعني التعثر فقط عدم دفع التزامات الدولة اللبنانية. إنّ أيّ إعادة جدولة للدين، واستبدالها بسندات طويلة الأجل، أو إعادتها بالليرة اللبنانية هو نوع من أنواع التعثر المالي وسيرتّب خسائر على المصارف تهدد رأس مالها وأموال المودعين.
إن استبدال سندات اليوروبوند المستحقة في أذار بسندات طويلة الأجل يعتبر تعثراً جزئياً لأنّ السندات الطويلة الأجل قيمتها السوقية 40 سنتاً لكل دولار وبالتالي التأجيل يعني خسارة المصارف 60% من استثماراتها من هذا الإصدار. تفرض المعايير الدولية لإعداد التقارير المالية (IFRS 13, US GAAP) قياس القيمة الفعلية والعادلة للأصول والاستثمارات وبالتالي سيُفرض على المصارف اللبنانية تسجيل أيّ إعادة جدولة لاستثماراتها أو استبدالها بسندات طويلة الأجل كخسائر ضخمة على قوائمها المالية وبالتالي تدهور سيولتها وملاءتها.
يتباهى بعض المسؤولين والمحللين أن دَين الدولة اللبنانية بمعظمه داخلي وتحمله المصارف في محاولة للتخفيف من حجم الأزمة المالية الحالية، في المقابل تُعتبر هذه الحقيقة مأساة مالية والثغرة التي قد تودي بجزء من أموال المودعين في مهب الريح.
في الختام، في حال لم تُؤمّن الدولة اللبنانية دعماً دولياً عبر هبات أو تدخّل صندوق النقد الدولي في الأشهر القليلة المقبلة سيكون من المستحيل تفادي إفلاس بعض المصارف بسبب انكشافها الكبير على الاستثمارات في الدولة اللبنانية، ولأنّ موجودات واحتياطات الدولة اللبنانية من العملة الصعبة لا تكفي جميع التزاماتها.