يتلاحق تفجر ملفات الفساد، وتتساقط الأرقام على الرؤوس. 350 مليون دولار معدل وسطي للرشا السنوية عن مشتريات الفيول والتي توزع يميناً ويساراً، أي نحو 3 مليارات و500 مليون دولار في السنوات العشر الأخيرة. يكشف حاكم مصرف لبنان النقاب عن تضخم كبير في فاتورة الاستيراد، ويعلن أنه من عام 2015 يصل حجم التهريب إلى 4 مليارات دولار في السنة، أي نحو 20 مليار دولار في آخر 5 سنوات كانت لدعم النظام السوري!
يشاهد العالم الفيديوهات المتلفزة عن قوافل التهريب التي تعبر من نحو 126 معبراً غير شرعي، تقع كلها تحت إشراف «حزب الله». يشمل التهريب الفيول المدعوم بنسبة 85 في المائة من مصرف لبنان، كما يشمل القمح المدعوم بالنسبة نفسها، وتتبرع جريدة «الأخبار» الممانعة بتوضيح أن القمح الذي يهرب هو فقط «القمح الطري لزوم صناعة الخبز السياحي»!! ويتردد أن جهات سورية تخزن مستوردات استراتيجية قبل أن تضع الولايات المتحدة العقوبات الجديدة في التطبيق وفقاً لقانون «سيزر»! والنتيجة تستنزف الدولارات المتبقية في مصرف لبنان، وتنتفخ جيوب مافيا الحكم والكارتل التابع، وتؤمن الدويلة جانباً من تمويلها!
وتتلاحق المؤتمرات الصحافية، ومحورها التبرؤ وإلقاء المسؤولية على الغير وادعاء الطهارة، والسلطة هي الغائب الكبير عن المشهد، لا قدرة لها على ممارسة المسؤولية ولا تملك الأهلية لإدارة الأزمة، فتبدو غير معنية بأحداث تعمق الانهيار والإفلاس لأنها مجرد واجهة مخروقة!
تطلق الحكومة موجة مخادعة عن نجاح «الاستراتيجية الرسمية» في مواجهة «كورونا»، ويردد رئيس الحكومة ووزراء أحاديث من نوع إعجاب العالم «بالتجربة» اللبنانية في «الانتصار» على «كورونا»، وفجأة يصدر التوجه ببدء تخفيف القيود، وتصدر الجداول ببدء الفتح التدريجي للمؤسسات والأشغال. صدقت الناس المحجّرة في البيوت والمصادرة أموالها في البنوك وبدأت تعود الحركة. لكن البشع أن بعض مؤسسات الدولة انطلت عليها الكذبة، فبدت المرحلة الثانية من عودة المغتربين أكثر شبهاً بالبدايات عندما تم ترك المطار مفتوحاً فانتشرت الإصابات، فعادت الطائرات مكتظة، كتفاً على كتف، وتردد أن مصابين كانوا بين العائدين، فانتشرت الإصابات بسبب تلك العودة التي لم ترفق بحجْر إلزامي، وانتشرت أيضاً، ارتباطاً بقلة الفحوصات اليومية، ليتم تحميل المواطنين المسؤولية، وتعود الحكومة إلى نغمة التشدد في الإقفال (…) ويتخذ القرار بالإغلاق الكامل من مساء الأربعاء في 13 الحالي إلى صباح 18 ولا يرفق بتكثيف الفحوصات!
الطريف في هذا السياق أنه لم يتوقف أحد عند الجهة المعنية بتخفيف القيود، ومن له الرأي الراجح وتالياً القرار، وما الاعتبارات التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، هل هو رأي الجهات السياسية والاقتصادية أم الأطباء الاختصاصيين وعلماء الأوبئة؟ في فرنسا مثلاً أقرت الجمعية الوطنية تخفيف الحجْر استناداً إلى 32 مؤشراً وضعها علماء وخبراء حددوا ضمن أي شروط يعود التشدد. لو أردنا مقارنة جدية حيال كيفية تعاطي العالم مع تفاقم الجائحة، لتبين بوضوح أن هناك انعدام رؤية مرتبطاً بتدنٍ في المستوى معطوف على أداء هواة، المؤسف أنهم في موقع القرار؛ ما يزيد من اليأس والخوف على مصير المواطنين والبلد!
في 30 أبريل الماضي أقرت الحكومة – الواجهة، ما سمي خطة «التعافي المالي». حرص واضعو الخطة على تلبية مسبقة لكل الشروط التي يطرحها عادة صندوق النقد الدولي، من تحرير سعر الصرف في الضرائب، إلى تجميد الرواتب التي تآكلت بنسبة كبيرة وكذلك الاقتطاع الإضافي من رواتب المتقاعدين، إلى قرار وقف التوظيف والبطالة يشمل أكثر من نسبة 50 في المائة ممن هم في سن العمل وكل أشكال التقشف للحد بنسبة كبيرة من فاتورة الاستهلاك ما يحسن ميزان المدفوعات (…)، وقالت الخطة إن تكلفة الأجور والتقاعد ستنخفض تباعاً إلى نحو 10 في المائة من نحو 31 في المائة الآن، أي أنها وعدت بسحق حياة أكثرية اللبنانيين.
دعونا نتوقف أمام بعض الجوانب. الانهيار والإفلاس ومن ثم الجائحة وما تطلبته من حجْر صحي، تبين أن التصدي الحكومي لها شكلي وظهرت بدائية التدابير التي اتخذت لدعم الفئات التي اعتبرتهم السلطة الأكثر فقراً، فتجاهلت أن الجزء الأكبر من المجتمع اللبناني بحاجة إلى الحماية، لأنه منذ ما قبل الجائحة كان البنك الدولي يتوقع أن ترتفع نسبة الفقر إلى 50 في المائة من المواطنين، وإذا بالنهج الرسمي يريد تحميل الأكلاف إلى عامة الناس من دون أن يكون هناك أي أفق عما سيكون عليه وضع لبنان بعد خمس سنوات. وصحيح أن الخطة التي بدأ التفاوض على أساسها مع صندوق النقد الدولي احتوت على تدقيق دفتري للخسائر المالية الحاصلة منذ عقود، وهذا جديد ومهم، لكن غاب المسح الحقيقي لما تملكه الدولة ولا تستوفيه وارداتها، وغاب عنها أيضاً حجم اللصوصية والنهب طوال عقود والمستمر الآن عبر الصفقات والتهريب على عينك يا شاطر! ولا يبدو أن هناك جدية في استعادة ما هو للدولة واستطراداً للشعب اللبناني.
لكن يبقى بين أبرز النواقص أن خطة «التعافي المالي» تجاهلت كلياً ما هو أكثر أهمية، وهو خضوع العديد من مفاصل الدولة لسلطة الدويلة، وأية دويلة هي؟ إنها دويلة «حزب الله» المصنف منظمة إرهابية من جانب البلدان الأكثر تأثيراً على قرارات صندوق النقد. فالولايات المتحدة تمتلك وحدها 17 صوتاً، ومع حلفائها ومن ضمنهم بريطانيا وألمانيا ترتفع النسبة إلى أكثر من 50 صوتاً، فكيف ستكون عليه الأمور مع طلب لبنان اقتراض 10 مليارات دولار من الصندوق، وكل هذه الأطراف شاهدت قوافل التهريب إلى سوريا، فيول وقمحاً ودولارات، وتبين أن بين المضاربين على الليرة والموقوفين بعض الصرافين الإيرانيين المكلفين تجفيف الدولارات من السوق اللبنانية لمصلحة ملالي إيران!
مع التطورات الجديدة في الإقليم، خصوصاً مع انتكاسة مشروع الهلال الشيعي ومنحى التغيير الجاري في العراق، والانسحابات التكتيكية من سوريا للفصائل التي تقودها إيران، يستحيل وضع لبنان على سكة التعافي مع بقاء الحدود السائبة والانتهاك المتكرر للسيادة، بل لأن عنوان استعادة السيادة هو اليوم الوجه الآخر لعنوان مكافحة الفساد واستعادة الأموال المسروقة. لم يعد ممكناً تجاهل حقيقة أن هذا السقوط الكبير والانهيار الذي يهدد لبنان بالتلاشي سببهما الرئيسي الخيارات السياسية التي فُرضت على البلد، وعندما تتحدث ثورة تشرين عن خيار مرحلة انتقالية تقودها حكومة مستقلة عن أحزاب الطائفية والفساد، إنما يكون التركيز على أن أساس المشكلة سياسي، والمعالجة السياسية تفتح طريق الحلول الاقتصادية والإنقاذ والتعافي الفعلي!