Site icon IMLebanon

مصير لبنان بين الميثاقيّة والتحييد!

 

يشعر اللبنانيون، كلّ اللبنانيين، بقلق عميق على وجودهم وكيانهم ومصيرهم في واحدة من أصعب المراحل في تاريخهم. إنهم يواجهون الخطر والمرض والجوع واللاأمن السياسي والاجتماعي والاقتصادي وخصوصاً المالي حيث تهوي عملتهم إلى الحضيض. ومن العلامات المعبّرة عن هذا الوضع التعيس والبائس أنّ 80% من اللبنانيين صاروا تحت خط الفقر وأنّ لبنان على مقياس مؤشر السعادة العالمي، يُصنّف أتعس بلد في العالم بعد افغانستان!

 

لن نعود إلى الأسباب الكثيرة والمثيرة التي أدّت إلى وصولنا إلى هذا الدرك ومختصرها في أمرين: حكم الميليشيا من جانب، بالتكافل والتضامن مع المتاجرة السياسية من جانب ثانٍ. حسبنا الانتقال إلى تبيّن الوجه الآخر للبنان الكيان والدولة والشعب والمصير:

 

هل هو قادر على تخطي المأزق التاريخي الذي يجتازه الآن؟ كيف؟ ما هي المستلزمات التاريخية التي يجدر باللبنانيين أن يؤمنوا بها وأن يمارسوها لكي يخرجوا من «جهنم»، ويستعيدوا ألق التحرر والحضارة وبناء وطن الرسالة على الشاطئ الشرقي للمتوسط؟

 

… هناك أكثر من عامل لإرساء قواعد الصمود والنهوض لدى اللبنانيين نشير في هذه العجالة إلى اثنين منها فقط:

 

الميثاقيّة والتحييد

 

أولاً: الميثاقيّة.

 

1-ماذا تعني الميثاقيّة؟ في العودة إلى الينبوع الأساس، الينبوع اللغوي، أي فقه اللغة العربية فإنّ اجتماع الأحرف الثلاثة: الواو والثاء والقاف ومنها كلمة وثق التي تدل بحسب معجم مقاييس اللغة على: عقدِ وإحكام. فالميثاق هو العهد المُحكم. من هنا القول فلان رجل ثقة، وقد وثقت به. إذاً في الميثاقية توجد 3 عناصر: العهد أو وثيقة التفاهم بين جهتين أو أكثر أولاً. الالتزام بكامل مندرجاتها ثانياً. وعدم الخروج عليها ثالثاً.

 

إنّها بكل وضوح عهد مُحكَم غير قابل للتأويل والنقض ذلك أنّ الالتزام بهذا العهد هو التزام أخلاقي وجودي أكثر مما هو إتفاق سياسي مرحلي. وفي هذا يطرح السؤال الجوهري: هو ميثاق من أجل ماذا؟ وبين من ومن؟

 

2 – إنه ميثاق بين اللبنانيين، جميع اللبنانيين، وتحديداً بين العائلات اللبنانية من أجل قضية مركزية هي: لبنان الوطن – الرسالة فالميثاق في لبنان هو فعل ارادة وفعل حرية في آن، انه ليس ميثاقاً بين مسيحيين ومسلمين بل «ميثاق اقليات حضارية تقمّصت في طوائف بشريّة»، كما يقول الأب ميشال الحايك تأكيداً لوجودنا المميّز والذي لا شبيه له في صيغ العالم، ذلك أنّ الميثاق قائم في ضمائر الجماعات منذ اللحظة التي قدمت فيها إلى لبنان لأنّها كانت تعرف ضمنياً ومسبقاً أنها لكي تحفظ ايمانها وهويّتها، كانت محكومة بالاقامة إلى جانب عائلات شبيهة بها. وبالتالي على الجميع العيش ضمن مندرجات ميثاق هو عهد للحكم يحدد الحقوق والواجبات والأدوار بدقة ووضوح.

 

3 – في الانتقال من التنظير للميثاق إلى الممارسة للميثاق. تنبغي العودة إلى الرجل الذي فلسف الميثاق من ضمن فلسفة الحياة العامة للبنانيين وهو المفكّر ميشال شيحا، فقد أكّد في كتاباته على أنّ الميثاق الوطني اللبناني، قبل أن يصبح نصاً مكتوباً في العام 1943 (بين بشاره الخوري ورياض الصلح)، كان معطى ايمانياً في عقول اللبنانيين وضمائرهم وكان الهدف منه ليس فقط توزيع السلطة بينهم بشكل عادل وهو أمر أساسي مهم، ولكن ما هو أهم منه تحقيق الاستقرار في لبنان وبين اللبنانيين! ذلك أنّ الاستقرار في لبنان هو علامة التوازن وخلاصة العدالة ونتيجة الالتزام بمندرجات الميثاق الوطني.

 

4 – في كل مرة تحاول جهة لبنانية ما (ولا نسمّيها عائلة لبنانية لخروجها عن الأصول العائليّة) أن تسيطر على السلطة وتنتهك الميثاق أي حقوق المواطنين الآخرين، فإنها تعمل بذلك على الوصول إلى نتائج كارثية. في مقدّمها خراب الدولة واضطراب الأمن، والخلل في الحياة العامة. وتكون هذه النتائج أكثر ايلاماً عندما تكون هذه الجهة مرتبطة بدولة أجنبية بحيث تعمل خدمة لمصالحها الايديولوجية والجيو- سياسية في الوقت عينه. وهذا ما يشهده لبنان اليوم بشكل واضح وجلي. وعليه السعي بكافة السبل والوسائل للتخلّص منه على الرغم من سعي هذه القوى للاستفادة من عاملين مؤثرين: تناقص عدد المسيحيين في لبنان والمنطقة، والبلبلة، بل الضياع السياسي لجماعة أهل السنّة في لبنان والمشرق بفعل الصراع الديمغرافي بين اسرائيل وجيرانها وجلّهم من العرب السنّة.

 

ثانياً: التحييد

 

ماذ يعني تحييد لبنان؟ يعني بوضوح أن تقوم الأسرة الدولية وتحديداً مجلس الأمن باعلان لبنان دولة محيّدة نظراً لأهميتها الحضارية والاستراتيجية وتأثيرها على معظم دول المشرق، وبالتالي منحها وضعاً قانونياً دولياً دائماً يشكّل ضمانةً لكيانها وسيادتها وحريتها واستقلالها. إنّ منح لبنان مناعةً وجوديّة يتأمن أكثر ما يتأمن بجعله دولة محيّدة. ذلك أنّ مبررات حياد لبنان كثيرة ومتنوعة، لا بل هو نموذج للبلدان المعدّة للحياد في العالم:

 

1 – اجتماعياً: بسبب تركيبته البشرية العقائدية الحضارية المتنوعة. وبالتالي فإنّ المطلوب للبنان، كما يقول الدكتور منوال يونس، هو «وحدة داخلية واستقرار سياسي قبل أي ارتباط خارجي أياً كانت دوافعه العاطفية أو الدينية أو العقائدية. ذلك أنّ اللبنانيين هم على مفترق طرق تاريخي: إما تقديم وحدتهم الداخلية على كل فئوية وارتباط خارجي وهو ما يحقق لهم الاستقرار والتقدّم والبقاء. وإمّا تقديم ارتباطاتهم الفئوية (الطائفية) وارتباطهم بالخارج وهو ما يقودهم إلى الاضطراب والتخلّف والانتحار الجماعي…»

 

2 – مبررات جغرافية: وفيها موقع لبنان كدولة، حاجزة في التصنيف الجيو- سياسي للدول، لديه أهميّة استراتيجية ودرجة العطوبية وصغر المساحة وقلة عدد السكان وتنوّع تركيبتهم الاثنية والدينية والثقافية، وتحمّل المعاناة من تدخّل القوى الاقليمية والدولية في شؤونه الداخلية بفعل قلة التجانس بين الكسور البشرية التي جاءت تاريخياً لتحتمي في الجبال.

 

3 – مبررات حضارية ذلك أنّ للبناني دوراً متقدماً في الشرق الأوسط على صعيدي الفكر والروح. إنه مركز التيارات الفكرية العقائدية ومركز لحوار الأديان والحضارات. ومثل هذا الدور بحاجة ماسّة لحياد لبنان كي يكون مركزاً للحرية والتأمل والاستقرار والسلام.

 

4 – مبررات اخلاقية – سياسية ذلك أنّ الحرية والديمقراطية في لبنان مسألة وجودية لا مسألة نظام حكم ودولة فقط. والتدخّل الخارجي يلغيهما والحياد يحفظهما.

 

باختصار، ليست الميثاقية عمل يوم أو عهد أو حقبة، بل هي عمل وامتحان يومي مستمر لجميع الكسور في المجتمع اللبناني، ذلك أنّ الارادة الحرة المشتركة لجميع اللبنانيين واقعة حتماً وبشكل دائم تحت تأثير الامتحان الصعب لقوى الخارج وقوى الداخل على السواء.

 

وعلى هذه الارادة أن تؤكد بشكل مستمر مصداقيتها التاريخية فلا تقع في شرك الضعف أو الاغراء المادي أو العواطف والانفعالات والانتماءات المذهبيّة. وإنّ الحياد هو العامل الأبرز في الحفاظ على هذه الارادة وقوتها واستمراريتها، لا بل يكاد يكون العامل التاريخي الوحيد لتأمين مصداقيّتها على ان يكتمل بخيارين ملحقين:

 

– القيادة الجماعية بمشاركة كافة عناصر الدولة في السلطة فلا تستأثر بها جهة واحدة بفعل دعم خارجيّ أو قدرة عسكرية او تفوّق ديمغرافي.

 

– اللامركزية الموسعة، خدمة لمصالح جميع المواطنين في مختلف انحاء الجمهورية بما يريحهم نفسياً وادارياً وسياسياً واقتصادياً. ذلك ان معظم الدول المحايدة في العالم تعتمد اللامركزية والقيادة الجماعية.

 

في الخلاصة، نريد أن نقول للبنانيين: لا تيأسوا، فليكن لديكم الرجاء لأنّ الرجاء هو الايمان، كما يقول البابا بندكتس السادس عشر. اننا نمرّ بوادي الألم والعذاب ولكن ايماننا أقوى من الظروف الصعبة التي يمر بها وطننا. وعلى الذين ارتهنوا ورهنوا لبنان لقرقعة السلاح والتبعية للاجئين أن يدركوا أنّ أشرف شيء وأعظم شيء وأسمى شيء قدّمه ويقدمه لبنان للبشرية جمعاء، هو العظمة الحضارية في مسار تاريخ الانسانية منذ الأحرف الهجائية الفينيقية في بيبلوس، والتي وصفها مؤرخو الحضارات بأنّها «أهم انجاز حضاريّ في تاريخ البشرية». وصولاً إلى صياغة الاعلان العالمي لحقوق الانسان ودور الدكتور شارل مالك فيه. هذا هو الرمز بل هذا هو الكنز الذي يحمله لبنان للانسانية بقيمها الأربع: الثقافة، والازدهار والسلام والكرامة البشرية.

 

إنّه الخط البياني الذي لا يشكل مصلحة للأمم فقط بل منفعةً لها أيضاً. ومن واجبها أن ترعاه وتحفظه بموجب الميثاق والتحييد كي يستمر منارة للمعرفة والابداع في العالم.