على رغم القلق وردود الفعل الحائرة في بعض الدول العربية على فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة والترحيب العلني في دول أخرى، فإن ما حدث قد حدث ولم يعد أمام العرب سوى التعامل مع الواقع والاستعداد له خلال الأشهر القليلة المقبلة التي تنتهي مع انتهاء ولاية الرئيس باراك أوباما الثانية ووصول الرئيس المثير للجدل إلى البيت الأبيض ليحكم العالم ليس بأحادية، بل بثنائية روسية – أميركية.
لا بد من الانتظار لمعرفة هويات أعضاء الإدارة الأميركية الجديدة، لا سيما في الداخلية والدفاع، لتحديد السياسات الجمهورية في عهده، لأن كلام الانتخابات والحملات تمحوه مسؤولية الحكم وتحدده مصالح الولايات المتحدة. ولا بد أيضاً من أن نذكر أن العرب لم يستفيدوا من أي رئيس سابق، جمهوري أو ديموقراطي، لخدمة مصالحهم وقضاياهم وأولاها القضية الفلسطينية، ما يعني أن الأمر سيان بالنسبة إليهم مع اختلاف الأساليب. إلا أن الأمر الأكيد أن الإدارة الجديدة، على رغم التشاؤم، ستعمد إلى تحريك السياسة الخارجية والتنسيق مع روسيا لإيجاد حلول للأزمات ووقف الحروب الراهنة في سورية وغيرها. فلعبة شد الحبال بين القوى الإقليمية والدولية في المنطقة ستقترب من نقطة النهاية، بعدما حققت أهدافها من الحروب المشتعلة التي أسهمت في إذكاء نيرانها وحصلت على حصتها من تركة الوطن العربي المريض وتقاسمت مناطق النفوذ والمكاسب والقواعد والثروات، وحتى الشعوب والأفراد والمنظمات والطوائف والمذاهب والأعراق، لا سيما الأكراد والتركمان.
ويزيد من رصيد ترجيحات قرب ساعة الحقيقة حسم معركة الرئاسة الأميركية، ما يدعو إلى الاعتقاد بأن الإدارة العتيدة لا بد من أن تنتهج سياسة جديدة وأن ما بعد أوباما لن يكون أبداً كما كان قبله. ولم يبقَ الآن من «لعبة الأمم» سوى الانتقال إلى لعبة أخرى هي لعبة «عض الأصابع» لتثبيت المستجدات و «شرعنة» السرقات، بانتظار مرحلة الشراهة التي ستشهد تقاسم حصص إعادة الإعمار في الدول العربية المنكوبة، لا سيما في سورية والعراق وليبيا واليمن.
ويخطئ من يظن، أو من يعلن، أن ما حصل في لبنان أخيراً كان قراراً لبنانياً بحتاً مئة في المئة أدى إلى التوافق على حل مشكلة رئاسة الجمهورية بعد سنتين ونصف السنة من الفراغ والتعنت والعناد والإصرار على منع انتخاب رئيس جديد، خلفاً للرئيس المنتهية ولايته العماد ميشال سليمان، وترك هذا المقعد شاغراً بانتظار «كلمة سر» تأتي من هنا أو هناك. بل يمكن الجزم بأن هذه الكلمة جاءت من القوى المعنية، ولا سيما من المملكة العربية السعودية وإيران والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا ومن سورية، على رغم ما قيل عن تفويض «حزب الله» وأمينه العام السيد حسن نصر الله.
فقد تبين من كل المعلومات المتوافرة التي بدأت تتسرب، شيئاً فشيئاً، أنه تمّ التوافق عبر «الاستشعار عن بعد» وأطلقت الإشارة الخضراء التي سمحت بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، بعد رفع الفيتوات عنه والتغاضي عن تحالفه مع «حزب الله» على رغم إعلان مجلس الوزراء السعودي برئاسة الملك سلمان بن عبدالعزيز المضي في تنفيذ سياسة مكافحة نشاطاته ومعاقبة المتعاونين معه، ومن ثم إعلان وزارة الخارجية الأميركية استمرار اعتبار «حزب الله» منظمة إرهابية ومعاقبة كل من يثبت دعمه وتمويله في أرجاء العالم.
وما توافُد المبعوثين الإيراني ثم الفرنسي وأخيراً السعودي للمرة الأولى بعد شهور من القطيعة الطويلة، إلا إثبات لوجود مظلة إقليمية وعربية ودولية للانتخاب كبالون اختبار لتوافقات وانفراجات أخرى في المنطقة ومنع وقوع المحظور، وهو انفجار الوضع الأمني، على أن يجرى تسيير الأمور خلال الشهور القليلة المقبلة وتنفيذ ما تبقى من مبادرة الرئيس سعد الحريري واختبار حسن نوايا الأطراف إزاء تكليفه برئاسة حكومة العهد الأولى والأمل بتسهيل مهمة تشكيلها.
وبالطبع، فإن هذا لا يعني أن الأبواب فُتحت على مصاريعها أمام الحلول السلمية الشاملة ووقف النزيف ووضع حد للحروب العبثية التي تحولت إلى كارثة، لكن ما يجرى إعداده هو بمثابة فسحة أمل تشكل بداية، لعل الأمور تسير كما تشتهي سفن العرب والعرّابين وأصحاب المصالح والغايات في مراحل لاحقة.
فكل المؤشرات تؤكد أن الجهود منصبّة الآن على إنضاج الطبخة الدولية الشاملة، لكن التجارب ودروس التاريخ في المنطقة علمتنا أن حدثاً ما أو تحولات في المواقف قد تربك، أو تنسف الخطط الموضوعة، أو تؤخر إقرارها إن لم تسهم في إفساد الطبخة الجديدة التي ستحل محل «طبخة الشؤم» التي وضعت في القرن الماضي وحملت اسم «اتفاقية سايكس بيكو».
ولهذا، لا يمكن استبعاد حدوث تصعيد أو تفجيرات وزرع حقول ألغام للعرقلة لوجود أطراف أخرى لم تحصل إلا على فتات أو تركت على قارعة طريق شارع التسوية وحيدة، بعدما نزعت منها الآمال ومحت أشعة الفجر وعود الليل.
باختصار، يمكن وصف الوضع الآن بمقولة «اشتدي أزمة تنفرجي»، لكن كل هذه التوقعات والإشارات تقود إلى طرح أسئلة كثيرة عن شكل التسوية والأطراف المشاركة فيها وآلية التنفيذ والجداول الزمنية. أما السؤال المحيّر والمفصلي الذي يتردد على كل شفة ولسان، فيتعلق بمستقبل وحدة الدول وما إذا كانت ستحافظ على الحدود الحالية أم ستعمل على غرز سكاكين التقسيم وفق المخطط المرسوم ضد الدول العربية لإقامة كيانات طائفية ومذهبية وعرقية مستقلة، أو تأخذ شكل الفيديرالية أو اللامركزية، ترسخ وجود إسرائيل ومطامعها وسيطرتها، ليس على فلسطين والجولان فحسب، بل على المنطقة بأسرها.
ولم تتضح معالم الصورة الكاملة إلا بعد بدء العمل الجدي على وضع الخطوط النهائية للتسويات بين الولايات المتحدة وروسيا، ومن ثم مع القوى الإقليمية والعربية الرئيسة، لضمان مشاركتها في التنفيذ بسبب وجودها الظاهر والباطن على أرض المعارك.
ومع بدء العد العكسي لإخراج الفصل الأخير من الحروب، لا بد من انتظار ملامح سياسة الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة دونالد ترامب، وإعادة ترتيب موازين القوى داخل الكونغرس بعد الانتخابات النصفية الأخيرة التي حصد فيها الجمهوريون الأكثرية.
في ظل هذه الأجواء، هناك تيار يتوقع تصعيداً خطيراً خلال الشهور القليلة المقبلة يشمل مواجهات على جبهات عدة، مع احتمال تنفيذ الولايات المتحدة عملاً عسكرياً يسهم في هذا التصعيد ليجرى بعدها التحرك لتأمين الحلول ورسم خطوط المصالح ضمن حدود الدول والغنائم.
أما أرض المعركة فستشهد سباقاً حامياً بين الانفجار والانفراج وتصعيد حرب المواقع ومناطق النفوذ، لتغيير موازين القوى وتشريع حقوق المكاسب وتحديد مصير الدول المشاركة في الحرب. فروسيا حققت حلم القياصرة، ليس بالوصول إلى المياه الدافئة وحسب، بل بالتمركز على شواطئها وإقامة قواعد بحرية وجوية دائمة في اللاذقية وطرطوس، إضافة إلى الحصول على عقود النفط والغاز والأسلحة وغيرها ووعود بالمساهمة في إعادة الإعمار.
أما الولايات المتحدة، فقد أمنت مكاسبها على امتداد سورية والعراق، بينها إقامة قواعد لها في القامشلي وكردستان العراق، إضافة إلى ضمان ولاء قوى محلية، مثل «قوات سورية الديموقراطية» ومجموعات كردية مسلحة. وحصلت إيران بدورها على مكاسب كثيرة. ونالت تركيا حصتها عبر سيطرتها على أراضٍ سورية عبر الحدود من جرابلس إلى أعزاز والباب إلى مشارف حلب، وإبعاد المسلحين الأكراد لمنعهم من إقامة دولة مستقلة كانت الولايات المتحدة وعدتهم بها. وفي العراق، استقرت القوات التركية في الشمال، وسط أحاديث عن مطامع بضم هذه المناطق وصولاً إلى الموصل التي يدعي الأتراك أنها تابعة لهم.
والتركيز على سورية يعود إلى موقعها الاستراتيجي وتشابك المصالح والقوى والدول المتصارعة على أرضها، والتداخل بين المحلي والإقليمي والدولي. إلا أن الدول العربية الأخرى تعيش، في شكل أو في آخر، ظروفاً مشابهة بانتظار اتضاح الأمور في سورية. ففي العراق حُسم أمر مواجهة «داعش» وصولاً إلى إطلاق عملية تحرير الموصل، ما أعاد التركيز مجدداً على سورية من جهة الرقة التي يفر إليها الإرهابيون وفرض بدء المرحلة الثانية لخوض معركتها.
وليبيا واليمن يشهدان أيضاً تصعيداً وتبريداً واتفاقات هدنة ومراوغة بين الالتزام والخرق، إلا أن الأوضاع وصلت إلى نقطة لم يعد ممكناً السماح بعدها باستمرار الحرب، لكن الأمر يتطلب تدخلاً إقليمياً ودولياً أكبر لإحلال السلام.
إنها مرحلة حرجة ودقيقة لا ندعي أنها ستستمر على سلام، لكن الدلائل تشير إلى أن اشتداد الأزمة خلال الشهور المقبلة سيؤدي إلى انفراجها، لحقن دماء الأبرياء ووقف القتل والدمار وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من العباد والبلاد.