«ماذا كنت تفعل لو سقطت المروحية الروسية قرب بيتك؟»، بمثل هذا السؤال قوبلت الاعتراضات على التنكيل بجثث الطيارين الروس الذين تحطمت طائرتهم في سورية مطلع هذا الشهر، ذلك أن توقع حفاظ السكان الذين نجوا من قصف الطائرة وشبيهاتها على حياة الملاحين، هو ما يتناقض مع الحس السليم، وليس سحل جثثهم، على ما يفترض صاحب السؤال.
ذبح فتى فلسطيني على أيدي مسلحي مجموعة معارضة سورية كان أثار قبل أسابيع قليلة من إسقاط الطائرة جدالاً صاخباً أيضاً حول «أخلاق الثورة» وكيفية التعامل مع الأسرى، وهل الفتى المذبوح تجاوز سن الرشد أم ما زال في سني الطفولة؟ ومن هو المجرم الحقيقي؟ أهو قاتله المباشر أم مَن جنَّده وأرسله إلى الحرب؟ …
ليس جديداً السجال في العلاقة بين العنف -واستطراداً الحرب- وبين الأخلاق. ثمة تاريخ طويل من محاولات البشر وضع حدود لوحشية القتال تشمل قوانين وضعية ونصوصاً دينية واتفاقيات دولية في شأن التعامل مع المدنيين في مناطق الحروب والحفاظ على حياة الأسرى وتجنب الإفراط في سفك الدماء بل والامتناع عن تدمير العمران في غير الغايات الحربية الملحة. بيد أن كل المحاولات تلك أخفقت في إضفاء وجه إنساني على الحروب. فالحرب ولو أخضعت لأشد الضوابط، هي في نهاية المطاف إعلان يأس من عقلانية الإنسان وتمسكه بالحياة وقابليته للحلول الوسط والتسويات، وهي نكوص إلى الاعتماد على الجانب البهيمي فيه وعلى اعتقاده الراسخ بقدرته على قلب الموت، موته وموت الآخرين، إلى حياة جديدة لبني جلدته أو طبقته، الحاملين «جيناته» الوراثية والسياسية.
وتصب في غير المعنى المراد لها تلك العبارات القائمة على جمع المتناقضات، مثل «أنسنة الحرب». لقد قدم البشر منذ أزمان التاريخ السحيقة أمثلة مروعة على أن أنسنة الحرب تعني بالضبط زيادة صفات غير حيوانية عليها، أهمها القتل غير المرتبط بضرورات البقاء كالتهام الفرائس، والحفاظ على مناطق الصيد على غرار ما تفعل الحيوانات اللاحمة. «أنسنة الحرب» تعني معسكرات الاعتقال النازية ورفع أكوام الرؤوس والجثث للترهيب ودفع الخصم إلى التنازل خشية إصابته بما أصاب أترابه.
الموقف الأخلاقي من الحرب برفضها كاملة والاعتراض على كل ممارساتها يعني البقاء خارج التأثير الفعلي، حيث لا يقبل أي عامل في السياسة بإلغاء عنصر العنف منها ولو على سبيل التلويح باستخدامه أو وضعه على طاولة المفاوضات.
بالعودة إلى مصير الطيارين الروس، يتعين تذكر أن الحرب في سورية خرجت منذ أعوام من أي إطار يشكل ضابطاً أخلاقياً أو سلوكياً لها، وتحديداً منذ قبول العالم باستخدام نظام بشار الأسد البراميل المتفجرة التي يقتل بها منهجياً السكان ويدمر المدن بدلاً من السلاح الكيماوي الذي «أزعج» العالم عندما لجأ إليه في الغوطة في آب (أغسطس) 2013. أضف إلى ذلك أن ارتقاء التدخل الروسي بالكذب إلى مستوى السياسة الرسمية (يكفي إلقاء نظرة على موقع «مركز المصالحة بين الأطراف المتخاصمة» الروسي ليشعر القارئ بأنه بات على غير هذا الكوكب)، في الوقت الذي تتخصص فيه الطائرات الروسية بقصف المستشفيات، لم يترك مجالاً لمواقف تشدد على أهمية الحفاظ على أخلاق الثورة باعتبارها قيمة أساسية تميزها عن أخلاق مجرمي الغازات الكيماوية وقصف الأفران والمراكز الصحية، على الرغم من وجاهة هذه المواقف وضرورة التمييز بين «أخلاقنا» وبين «أخلاقهم».
هل يعني هذا الكلام الدفاع عن سحل الطيارين الروس وتبنيه؟ قطعاً لا. لكنه يشير إلى أن فارقاً شاسعاً يفصل بين ما يجري على أرض الميدان وبين ما يتمناه أصحاب النوايا الحسنة والطويات السليمة.