مصير الخطة الأمنية بين منطقة المصالح المتصادمة والانحدار إلى الدولة الفاشلة
«بعلبك – الهرمل» هل تنتقل من «البؤرة» إلى المحافظة المتصالحة مع الدولة؟
متى يُدرك الممسكون بقرار لبنان خطورة اللعب على حافة الهاوية ويُقلعون عن تحويل البلد إلى نموذج كوريا الشمالية
هيبة الدولة لا تتجزّأ وكذلك انهيارها. والأمن بالتراضي لا يمكن أن يستقيم مهما وُجدت له تبريرات وذرائع. اليوم ترزح محافظة بعلبك – الهرمل الحاضنة الشعبية لـ «حزب الله» تحت رحمة الفلتان والسلاح والاقتتال ذي السمة العشائرية والثأرية، لكن في خلفيات المشهد، هناك تداخل بين ما هو حزبي وما هو عشائري – ثأري تلفّه مصالح العصابات وموارد تمويل الجهات النافذة والمُمسِكة بالنفوذ على الأرض. الأمن بالتراضي لا يصنع أمناً ولا سلماً اجتماعياً. والتحريض على الدولة يؤدّي في نهاية المطاف إلى ما نحن عليه اليوم. الجزر الأمنية و«الغيتوات» الطائفية والمذهبية تنتهي في أن يأكل أبناؤها بعضهم البعض.
يريد «الثنائي الشيعي» خطة أمنية، لا مفرّ منها، لأن «حزب الله»، الذي يُمسك بالميدان، لا يريد ببساطة أن يصطدم بالمباشر مع العائلات والعشائر. هم من نسيج واحد، والمواجهة مُكلفة في منطقة لم تَختبر على مرّ الأجيال منطق الدولة ولم تعشه لأسباب بعضها يمتّ إلى عجز هذه الدولة نفسها، وبعضها الآخر إلى تواطؤها مع القيّمين على المنطقة، وبعضها الثالث إلى رغبة في تركها بؤرة. والبؤر في نهاية الأمر مصيرها الانفجار الأمني والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي.
الخطة الأمنية تشكل بُعداً تفصيلياً. قد تلجم الانفلات مؤقتاً، وتضبط الأوضاع لفترة زمنية محددة، لكنها لن تنجح ما دامت البيئة السياسية والاجتماعية غير مهيّأة للتصالح مع مفهوم الدولة. ثمة حاجة إلى قرار استراتيجي في السياسة، وإلى التسليم بأن للدولة مؤسساتها وآليات عملها. لا يمكن لتلك الآليات أن تحمل في طياتها بزور الفشل عبر الاستكانة للمحسوبيات والرشوة والفساد والصفقات.
ستصطدم الخطة الأمنية بواقع معقد في منطقة معقدة هي الأخرى، وظروف أكثر تعقيداً. منطقة متداخلة الحدود مع سوريا، مفتوحة لكل أنواع التهريب، من شحنات بضائع تصل إلى ميناء طرطوس وتُنقل عبر الأراضي السورية براً وتدخل إلى لبنان عن طريق المعابر غير الشرعية من دون جمارك، إلى السيارات اللبنانية المسروقة والمهرّبة إلى الداخل السوري، فتجارة المخدرات. هذا المستوى من الانهيار والفساد الذي يضرب الاقتصاد اللبناني ومالية الدولة لا علاقة له بصغار الموتورين، بل له علاقة بشبكات مصالح كبرى منظمة، ما يطرح علامات استفهام عن كيفية تعاطي القوى الأمنية من جيش وقوى أمن داخلي وأمن عام وجمارك مع هذه التحدّيات التي تُشكّل معالجتها المدخل الحقيقي والأساسي لحل المسائل الأخرى؟ فلا شيء في البيئات المغلقة مخفياً.
ما خلقته الحرب السورية من تغييرات على الحدود لا يزال يلقي بثقله على المشهد البقاعي، على أن العوامل المرتبطة بوجود التنظيمات المتطرّفة من «النصرة» و«داعش» انتفت بعد حرب الجرود، وملف النزوح السوري يضغط على البيئة السنيّة بشكل أساسي، وإن كان «الحزب» يستشعر بخطره المستقبلي، لكنه ليس اليوم الشمّاعة التي يمكن أن تعلّق عليها حال الفلتان المستشري في البيئة الشيعية بقاعاً.
الخطة الأمنية ستصطدم بغياب خطة إنمائية في المناطق المهمّشة. وإن وُجدت تلك الخطة الإنمائية على الورق فتنفيذها مشكوك بأمره، وإنْ نُفّذت، فستسابقها أخبار الصفقات. هي حلقات مترابطة تبدأ بهشاشة المؤسسات التي تسير مساراً انحدارياً متسارعاً رغم مرور ما يزيد عن سنة ونصف السنة على العهد الحالي ولا يمكن التنبؤ بما ستنتهي عليه، لا سيما مع جملة مؤشرات سلبية سُجّلت خلال فترة زمنية قصيرة من الصدام المفتعل مع المجتمع الدولي حول ملف النزوح وارتداداته الداخلية مروراً بمرسوم التجنيس، وما تضمّنه من أسماء مشبوهة ومُدرجة، أو مُرشحة أن تُدرج على اللوائح السوداء وصولاً إلى مسألة عدم «ختم» جوازات سفر الإيرانيين في لحظة إقليمية ودولية حسّاسة عنوانها محاصرة إيران وأذرعها العسكرية على كل الساحات التي تغلغلت فيها، سواء بـ «القوة الخشنة» أو «القوة الناعمة».
المؤشرات تدل على مدى اقترابنا من أن نكون دولة فاشلة ومارقة. لبنان في عز الحرب الأهلية والفوضى حافظ على المقوّمات الدنيا للنظام الاقتصادي والمالي، فإذا به اليوم يدخل في مجازفة ومخاطرة موصوفة مع محاولة مقارعة واشنطن بشكل أساسي في ما خص العقوبات التي تفرضها على إيران وتصنيفها «حزب الله» بالمنظمة الإرهابية بجناحيه السياسي والعسكري وإدراجه وكيانات وأفراد إيرانية وسورية وعراقية ولبنانية على اللوائح السوداء، وكأن هناك تواطؤاً بين أركان الدولة بتحويل لبنان إلى حديقة خلفية مالية واقتصادية لإيران والنظام السوري في وقت يدرك هؤلاء أن سيف العقوبات مصلت على رقاب اللبنانيين ومؤسساتهم ومصارفهم عند أي خرق للإجراءات الأميركية.
المقلق هو هذا الصمت للقوى التي يُفترض أن تكون حريصة على لبنان، ومحاولتها تجنيب نفسها أن تتحوّل رأس حربة في مواجهة ما يجري من تجاوزات رغم إدراكها لعواقبها على اللبنانيين. محور الممانعة وحلفاؤه يركنون مطمئنين إلى أن المجتمع الدولي يمنح لبنان فترة سماح، انطلاقاً من حاجة الأوروبيين تحديداً إلى الحفاظ على الاستقرار الداخلي لعدم استخدام ورقة فتح الشواطئ اللبنانية أمام قوارب اللاجئين، كما عدم استخدام ورقة «اليونيفل» التي سبق أن تباهى بعض رموز «8 آذار» بأن هؤلاء يمكن أن يتحوّلوا، في أي لحظة، إلى رهائن. لكن أحداً لا يضع نصب عينيه، أن ما يمكن اعتباره اليوم أوراق قوة في يده، قد يتلاشى غداً.
المشكلة أنه فيما تعمل كوريا الشمالية على الخروج من عزلتها والانفتاح على العالم والالتحاق بركب المجتمع الدولي، يتم العمل على تحويل لبنان إلى نموذج على شاكلة كوريا الشمالية. وحين تقف أوروبا عاجزة عن مواجهة قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي وإعادة العقوبات على طهران وتجد شركاتها الوطنية الكبرى تنسحب من الساحة الإيرانية، يصبح مشروعاً القول إن لبنان ذاهب إلى الانتحار.
ثمة فعل عدم إيمان بلبنان بدأ يلوح في الأفق. حتى أن الرهان داخلياً على مؤتمر «سيدر»، بما يشكله من فترة سماح للبنان لمنعه من الانهيار، مربوط بشكل أساسي بالتشكيلة الحكومية العتيدة وما إذا كانت ستُشكّل استفزازاً للخارج. قد يصح اعتبار أن «سيدر» يُشكّل عاملاً من العوامل التي يمكن أن تنشل لبنان، شرط أن يستدرك الممسكون بقراره خطورة اللعب على حافة الهاوية بعدما فتحوا أبواب جهنم على البلاد وعلى أنفسهم، ليس عسكرياً فقط بل اقتصادياً ومالياً، وما قد تحمله من انعكاسات أمنية!.