عود على بدء مع قانون الانتخاب ومناقشته، في ظل اقتراحات ومشاريع سبق أن أُشبعت درساً. لكن ما الهدف من مناقشة قانون للانتخاب في ظل نظام الطائف المتعثر، ومحاولات البحث عن بدائل للنظام الحالي؟
في كانون الثاني عام 2005 أصدرت وزارة الداخلية كتاباً خاصاً بالاقتراحات الواردة لتعديل قانون انتخاب أعضاء المجلس النيابي، بعدما فتحت الباب لاستقبال مشاريع تدفقت من نواب ووزراء وأحزاب. بلغ عدد الاقتراحات حينها 120 اقتراحاً: 23 من النواب والوزراء، 27 من الأحزاب والجمعيات، 82 من الأفراد.
وصُنِّفَت الصيغ في ثلاث فئات: الأكثرية 67 اقتراحاً، والنسبية 35، والمركّبة 21. وحفلت هذه الاقتراحات بكل أنواع الصيغ والأفكار التي يمكن أن ترد في مناقشة قوانين الانتخاب، ولا يمكن حصرها.
يظهر جدول أسماء مقدمي الاقتراحات، غياب معظم الأحزاب والقوى المسيحية المعارضة للوجود السوري، في تلك المرحلة عن تقديم أي اقتراح. إلا أن قانون 1960 أتى حينها كمنفذ للتعبير عن تطلعات هذه القوى التي لم تصدق لحظة واحدة أن قانون 1960 قد يصبح حقيقة واقعة، وأن البطريرك الماروني الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير وافق عليه في النقاشات الليلية التي كانت تجري في بكركي، لأنه يشكل خرقاً أساسياً للمحادل التي كان يشرف عليها النظام اللبناني الموالي لسوريا.
مع المتغيرات التي لحقت بالوضع الداخلي والذهاب إلى اتفاق الدوحة، نُصح المسيحيون بعدم العودة إلى قانون 1960، لكنهم تشبثوا به، إلى أن انقلبوا عليه مجدداً بعد انتخابات عام 2009.
منذ ذلك الوقت، توالت المؤتمرات والمشاريع المقدمة إلى وزارات الداخلية المتعاقبة، وصدرت قوانين وجمدت أخرى، في ظل محاولة المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي تحديداً تفادي مواجهة استحقاق تقديم مشاريع قوانين والاكتفاء بما هو معمول به.
اليوم يعود قانون الانتخاب من الباب العريض، بعدما رفضت القوى المسيحية الأساسية المشاركة في أي جلسة تشريعية لا يقرّ في مقدم بنودها قانون الانتخاب، الأمر الذي جعل الرئيس نبيه بري يتراجع عن موقفه بدوافع داخلية وخارجية، بعقد جلسة تغيب عنها المكونات المسيحية الأساسية. لكن العودة إلى اللجان المشتركة، ليست سوى خطوة أولى، وهي غير كافية لإقرار قانون انتخاب، لأنها تعني ظاهرياً إغراق الوضع السياسي مجدداً في متاهة 17 مشروعاً على بساط البحث. علماً أن التجربة دلت سابقاً على أن القرار السياسي هو الذي يغلب المشاريع المقدمة. هكذا حصل عام 2005 في ظل 123 مشروعاً قُدِّمَت إلى وزارة الداخلية، وهكذا حصل في الدوحة، وهكذا يفترض أن يحصل مع قانون الانتخاب الجديد. ما يعني انتفاء الحاجة إلى مثل هذه المناقشات، ما دامت مواقف الأطراف جميعاً معروفة منذ الانتخابات الأخيرة وما لحقها من مداولات واقتراحات قوانين.
وإذا كان التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية قد حققا خرقاً أساسياً بتأكيد أولوية قانون الانتخاب على أي بند تشريعي آخر، تتمحور النقاشات حول خطوتهما التالية لإقرار قانون واحد، علماً أن لكليهما رؤية مختلفة لصيغة القانون، وإن كانت موحدة تجاه الهدف منه.
رسم الاجتماع الأخير الذي عقده رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع ورئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل، خريطة طريق جديدة لتثبيت المواقف لاستعادة الحضور المسيحي في السلطة وتأكيد أحقية مطالبهما في الحكومة وفي مجلس النواب. وقد تبدو من المفارقات الأساسية أن التيار والقوات ينسقان في التفاصيل المتعلقة بمسار العمل النيابي والحكومي، رغم عدم مشاركة القوات في الحكومة. لكن التعاطي مع ملف أمن الدولة، واحد من الأمثلة التي تبرز عمق التفاهم بين الطرفين، يضاف إلى ذلك العلاقة المتقدمة بين جعجع وباسيل، علماً أن الأخير يضاعف في الفترة الأخيرة، بوصفه رئيساً للتيار، من تصعيد لهجته في المطالبة بحقوق المسيحيين، داخل السلطة التنفيذية والتشريعية، وكان واضحاً في ذلك، سواء على طاولة الحوار الأخيرة، أو حتى في جولته الأخيرة في طرابلس.
وقد أثبتت خريطة الطريق الجديدة حتى الآن أنها سائرة بتأنٍّ وبخطوات ثابتة وناجحة، فجاء إعلان بري إرجاء الدعوة إلى جلسة تشريعية تتويجاً لها. لكن أمام الطرفين اليوم خطوات عملية لترجمة التمسك بإقرار قانون الانتخاب، لأن في ذلك لبّ المشكلة التي يعاني منها الطرفان ويريدان من خلالها استعادة المقاعد المسيحية التي يعتبرانها مرهونة لكتلتي المستقبل واللقاء الديموقراطي. فكيف يمكن أن يتحاشيا الغرق في متاهات التخبط السياسي الذي يراد من جرائه إبعاد كأس قانون الانتخاب عن دائرة البحث؟
فالمشكلة الحالية تتعلق بمقاربة الأطراف جميعاً لقانون الانتخاب، لأن القانون لا يتعلق بالشق التقني، بدليل أن كل النقاشات منذ عام 2005 وحتى اليوم، تجاوزت هذا العامل، لتصب كما أصبح معروفاً فقط على شكل الدوائر وطريقة الاقتراع.
جوهر مناقشات قانون الانتخاب حالياً، أن ثمة فريقاً يريد إرجاء البحث فيه إلى ما بعد الاستحقاق الرئاسي وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وفي المقابل يصرّ فريق آخر على البحث في قانون الانتخاب قبل انتخاب الرئيس. في المبدأ، قد يكون الفريق الأول على صواب، لو لم يزل هذا الفريق متمسكاً بالطائف الذي نفذه النظام السوري، حين كان حليفاً له، وتالياً يريد قانوناً للانتخاب من ضمن مفهوم الطائف المعمول به منذ عام 1990 ويتحكم من خلاله بالوضع النيابي والحكومي. لذا يحاول الفريق المسيحي الذهاب إلى مناقشة آنية للقانون لمحاولة ترتيب الوضع الداخلي ضمن اتفاق الطائف الذي يصر المسيحيون على التمسك به بصيغته الأصلية.
فضلاً عن أن البحث في القانون يتعدى أيضاً توقيت مناقشته، للوصول إلى سؤال يتعلق بمصير النظام اللبناني. فالبحث في قانون انتخاب من ضمن نظام الطائف المتعثر حالياً، سيعيد الوضع إلى ما كان عليه سابقاً. أما إذا اتجه الوضع اللبناني إلى ما يطرح إقليمياً ومحلياً من أسئلة عن احتمال بقاء النظام الحالي واستمرار العمل باتفاق الطائف، فأي فائدة ستكون لمناقشة هذا القانون اليوم إذا خرج اللبنانيون من الطائف إلى مشاريع فيدرالية أو مؤتمرات تأسيسية أو أي صيغ أخرى مطروحة للتداول؟