IMLebanon

الامبراطورية الفارسية المفجوعة

قال هتلر في أوج «مجده» أنه سيبني امبراطورية نازية تدوم ألف عام، لكن امبراطوريته لم تدم أكثر من بضعة أعوام، إنهارت معه، وإنهارت معها ألمانيا. كأنه أمسك بالتاريخ من أطرافه، الماضي والحاضر والمستقبل، في رؤيا «تنبوئية» خذلها الواقع. والتاريخ نفسه. ويبدو أن هناك، اليوم، أحلاماً «امبراطورية» لا تقل طموحاً عن هذيانات الفوهرر: تركيا تتطلع إلى بعث الامبراطورية العثمانية، التي دامت نحو 500 عام… ويأمل أردوغان، ربما، في دوامها ألف عام! روسيا على غرارها. فمسألة «من الأبد إلى الأبد»، أخذت بمجامع القلوب والعقول والمخيلات..

وها هي إيران قبل موسكو وأنقرة، تمكن منها الغرور، والنرجسية لتقيم «امبراطورية فارسية» على عدة بلدان عربية، من خلال ما سُمِّي «الهلال الشيعي».. وراحت تعمل بكل ما أوتيت من جبروت، وعنف، وغزو ومال، وحروب! في اختراق عدة بلدان عربية: العراق، سوريا، اليمن ولبنان. رائع! إنه شعور مَن أدرك القمم.. حتى لامس الوصول، منذ رأى أمامه مشروعه «يتحقق» فوسّع بيكاره إلى العالم العربي، والأوروبي.. فمشروعه لم يعد مقتصراً على جيرانه، بل على ما هو أبعد منهم.

وها هو في غطرسة «حديثي النعمة» يتباهى بأن مشروعه المذهبي بدأ يتبلور، في عدة أماكن: فلبنان صار ولاية من ولاياته، وكذلك سوريا، والعراق واليمن. أربعة بلدان عربية تحت مظلته.

إنها لحظات التوهّج، والغطرسة، والكبرياء.

وقد عزّزت الأحداث بعض استيهاماته! ففي عام 2016، ومع سقوط حلب، بدأ نظام الملالي كأحد كبار المنتصرين في الحرب السورية، حتى بات الاسد، مديناً للملالي.. أو بالأحرى مسوفاً لهم. فحضورهم في سوريا يوفر لها استمرارية مباشرة بين لبنان (حزب الله)، والعراق، بل كان يحكي عن ممر شيعي يجمع طهران ببيروت عن طريق العراق وسوريا.

وكلنا يتذكر أن بعضهم في البرلمان الإيراني راح يحتفل بالقوة المسترجعة للأمبراطورية الفارسية الممتدة من المحيط الهندي، إلى المتوسط، مروراً بالخليج.

الخيلاء

وما نفخ خيلاء الملالي، توقيع مراقبة البرنامج النووي في فيينا عام 2015. فقد اكتمل العقد. واستحقت النبؤات مستحقيها. ماذا يريد أكثر من ذلك؟: فالمستثمرون الأوروبيون عادوا. وزال كل حصار حول البترول الإيراني. وبدت، سياسياً، وعسكرياً واحة الاستقرار في المتوسط، وسط الخراب والفوضى والدمار التي تعيشها المنطقة. فكل شيء اجتمع في أيديها: الحضارة، والتاريخ، والتمدد، والتوسع، والعلاقات الدولية المريحة باتت كلها في حزمة الطموحات العالية في المنطقة.

فاقة بعد عزّ

إنهم في الأوج. فوق. وكل رياح الأرض تدفع سفنهم. لكن، جاء ترامب، رجل أعمال أميركي، قرر أن يقضي على كل إنجازات اوباما (الذي إنحاز إلى إيران ضدّ العالم العربي) من البرنامج الصحي، إلى بناء جدار مع المكسيك، فإلى الاتفاق النووي مع إيران. كل هذه «الإنجازات» كانت من ضمن برنامجه ووعوده وأهدافه ضدّ إيران: «فهي مصدر الشرور والأزمات في الشرق الأوسط، تسلح حزباً تهدّد صواريخه إسرائيل. وتهزّ استقرار العراق. وتهدّد جيرانها في الخليج، وحتى الأمن القومي الأميركي».. فما بناه أوباما يريد أن يدمّره، وبدلاً من إرساء سلام مع إيران، إعلان حرب عليها: وراحت العقوبات تتكدّس، وقبل بضعة أشهر أضاف عقوبات جعلت البترول الإيراني يكاد يكون مستحيلاً. طالب العالم كله بمقاطعة نظام الملالي. وها هي الشركات الأوروبية تهجر إيران… اشتد الحصار الخارجي عليها بعدما انفتحت لها كل البوابات شرقاً وغرباً.. وبدأت الانهيارات: منذ نيسان الماضي فَقَدَت العملة الوطنية نصف قيمتها، مما خلّف أزمة اقتصادية خانقة، أدت إلى أزمة سياسية داخلية، فانطلقت المظاهرات والاحتجاجات في عدة مدن إيرانية: «فليسقط النظام»، «الموت لخامنئي».. حاولت السلطة عبثاً معالجة الأمور. لكن عبثاً «أخرجوا من لبنان وسوريا»، وفّروا أموال الحروب الخارجية للشعب الذي يئن تحت وطأة العوز والفقر. فالداخل مشتعل. تجاوز في مطالبه انتفاضة 2009 التي جاءت ردّة فعل على تزوير الانتخابات الرئاسية وفوز أحمدي نجاد، وفرض الإقامة الجبرية على كبار مؤسسي الجمهورية الإسلامية كروبي، وموسوي. فالمطالب هنا، وإن بدت «مطلبية»، فإنها تجاوزت ذلك إلى المطالبة بإسقاط النظام وإسقاط الحرس الثوري الفاسد، وتخوين المرشد الأعلى. الداخل في قاع القاع.

الولايات المتمردة

لكن، والخارج، الأمور تسوء في العراق. انتصرت المعارضة بقيادة مقتدى الصدر في الانتخابات البرلمانية. وها هو يطالب بين جماهيره بخروج إيران من العراق، فالمعركة أكثر من انتخابية بل سيادية «إيران برا برا» (يُذكّر بهتاف تظاهرات 14 آذار.. «سوريا برا برا». لقد انتفض العراقيون الاستقلاليون وخصوصاً الشيعة على الوصاية الإيرانية، وتدخلها في الشؤون العراقية. كأن لم يعد العراق ولاية من ولايات المرشد. وهل ننسى كيف أحرق المتظاهرون القنصلية الإيرانية في البصرة.

والأمر لا يقتصر على وجود إيران في العراق، بل في سوريا نفسها: فالعلاقات الإيرانية بعدما كانت سائدة ومهيمنة في البلد العربي العريق، بدأت تتدهور مع شريكيها الروسي والسوري نفسه. فالروسي، حصد كل نتائج الحرب في سوريا: صارت له الكلمة الفصل. مما يعني تهميش الدور الإيراني.

ملامح النهايات

وها هو أخيراً الاتفاق الذي تم حول إدلب بين أردوغان وبوتين، بمعزل عن إيران، التي عضت على جروحها وأيدته مدّعية أنها كانت على علم به. ونظن أن الحملات التي شُنَّت على روسيا في البرلمان الإيراني شواهد على سلبية العلاقة بين البلدين. فالمسؤولون الإيرانيون مفجوعون نحن قدمنا ألوف الضحايا (بمَن فيهم مقاتلو حزب الله اللبنانيون، وقدمنا أكثر من ملياري دولار دعماً للنظام، وتسليحاً.. ونخرج من «جنة» الاستثمارات الموعودة في إعادة بناء سوريا والتي تقدر بـ400 مليار دولار!«شعروا أنهم خُدعوا من بيت أبيهم». ولم نعد نسمع أو نقرأ من تصريحات تتبجح بأن سوريا «ولاية فارسية»: سقطت ولايتان حتى الآن: العراق وسوريا! أكثر: بدأ تحجيم الوجود العسكري والميليشيوي في إيران: اتفق الإسرائيليون مع بوتين على السماح للطيران الإسرائيلي بقصف الميليشيات الإيرانية وعلى رأسها حزب الله والقواعد الإيرانية. فالروس أقنعوا الإيرانيين بألا يقتربوا أقل من 85 كلم من الحدود السورية، ووافقوا على أن تتولى قوات النظام المرابطة على حدود الجولان، لكن إسرائيل لا تكتفي بهذا القدر، بل تطالب بخروج إيران من سوريا كلها!

أما في اليمن، فالحرب كأنها باتت طويلة. ولا نظن أنها تجري لمصلحة الحوثيين الذين باتوا في خطوط الدفاع. أما التهديد بإغلاق ممر هرمز، فقد ردّ الأميركيون بأنهم لن يكتفوا بمنع إغلاقه بل يتجاوز الحرب إلى إيران نفسها. فهرمز لم يعد ورقة إرهابية يلعب بها نظام الملالي.

أما في لبنان، فالمسألة مختلفة: من المتوقع أن يعود الحزب بمسلحيه إلى لبنان؟ تاركاً المنفذ الذي «يمكن» أن يهدد به إسرائيل في الجولان إلى لبنان. أي إلى جنوبه وبقاعه: يعني لم يبق لهم سوى هذا البلد حيث صار صعباً على الحزب أن يلعب بورقة الحدود الجنوبية. فإسرائيل تهدد بتدمير كل لبنان، فظروف عام 2006 لم تعد مماثلة. فالحزب صار مكللاً بالهزائم: أكثر من ألفي قتيل وجريح من الشباب الشيعي اللبناني، ساقهم الحزب قرابين تقدم على مذابح ولاية الفقيه. فالخيلاء التي تملكته عند ذهابه، وبخاصة في «إنقاذ الأسد»، حلت محلها مشاعر الإحباط، فمن يضمن ألا يغدر بشار بإيران! وقد بدا أنه بدأ بذلك بالموافقة على إبعاد الحزب والحرس الثوري عن الجولان. وماذا يمنع ألا يتواطأ غداً لإخراج كل ميليشيات الحزب من سوريا، فهناك دلائل على ذلك. (ولا ننسى أن أصواتاً برلمانية إيرانية هاجمت موقف الأسد المنحاز لروسيا). ونظن أن من استراتيجيات روسيا إخراج كل المسلحين الأجانب من البلد، لتوفر للأسد، بحمايتها طبعاً، الهيمنة على سوريا.

و… المحكمة

وها هي المحكمة الدولية (تزيد الطين بلة)، فقد أكدت مشاركة أربعة من قديسيه وأوليائه في اغتيال الحريري. (أحدهم قُتل بسوريا بظروف غامضة تماماً، تماماً كالعديد من العسكريين والسياسيين السوريين ممن لهم علاقة بهذه القضية الذين قتلوا أو «استنحروا» أنفسهم: فرستم غزالة صُفي بطريقة وحشية، وغازي كنعان، الشاهد الأول على ظروف اغتيال الحريري، «استنحر نفسه» بعدة رصاصات.. (مثل محمود الزعبي).

وما أدلّ على «إفلاس حزب الله»، إقدامه على تسمية شارع «في كانتونه طبعاً» للمتهم (الراحل) مصطفى بدر الدين، فهو قديس بين قديسي الحزب الكثر. وما أكثر وفاء الحزب بقديسيه خصوصاً المتهمين بقتل الحريري.. ونظن أن تكريس شارع للمتهم الشهيد، جاء رداً على إفلاس آخر: دفاعات الدفاع التي يواجه بها «محامو الحقيقة»، أو محامو «آخر زمان»، تنهار الواحدة بعد الأخرى، ويعوضون عن هزال مقارباتهم ودفوعهم بخطب مضحكة وهزلية (لا تليق بمحامين مبتدئين من المرتبة العاشرة)، لكن الرد على استكمال تأكيد جريمة هؤلاء، بشارع، أو بوسام، أو باحتفال فولكلوري، أو بتهديدات «لا تلعبوا بالنار»، أو «لا تمزحوا مع مصطفى بدر الدين»، تعبّر أيضاً عن فراغ جعبة الذين اخترعوا أفلاماً وخرافات لتضليل التحقيقات. فالمحامون، كما يعرف أي شخص، إذا لم يردوا بالأدلة الدامغة، والبراهين الأكيدة، يعني أنهم إما فاشلون، أو لم يدرسوا جيداً ملفاتهم أو محكومون بهاجس «محامي الشيطان» أو محامي «الحقيقة» التي تتجاوز الوقائع إلى هلوسات لا تقدم ولا تؤخر.

وإذا كان السيد حسن قد قرر التزام الصمت حول المحكمة لأنه لا يعترف بها (سبق أن قيل انها محكمة إسرائيلية أميركية)، فإنه خرج عنه ببادرة استفزازية تعبر عن تمسكه بدويلته، حيث يعلق فيها ما يشاء، ويدمر فيها ما يشاء.

إنه صمت الدويلة (وافق السيد حسن على المحكمة الدولية ثم تراجع، ثم وافق على إعلان بعبدا وتراجع…). ازاء حدث أكبر منها. وأمام محكمة دولية، معززة بكبار القضاة والحقوقيين، ومن بلدان عدة.

ونظن أنه مهما قدّمت المحكمة (في جلساتها الختامية) من أدلة، فلن يتغيّر موقف الحزب، وسيحمي هؤلاء من تنفيذ الأحكام التي ستصدر بحقهم. أو أنه (ربما) يتكل على «فيتو» روسي في مجلس الأمن. لكن هذا احتمال صعب.

من الطبيعي أن تترافق بداية (أو نهاية) الامبراطورية الفارسية.. وبداية تساقط الكانتون الذي بات يعتبره نظام الملالي آخر دويلاته.. الامبراطورية.

بول شاوول