Site icon IMLebanon

محاربة الفساد.. وتعويذة نجاح الأمم

«يا تونس الخضراء هذا عالم يثرى به الأمي والنصاب» (نزار قباني)

«كيف تفشل الأمم»، بحث أكاديمي مميز لم يوفر فيه من عمل عليه أي من المعطيات العلمية والتاريخية والأحفورية لمحاولة فهم كيف تنجح أمم في النمو وفي تدعيم رفاهية أفرادها، وكيف تفشل أخرى بالرغم من فرص النجاح المتوفرة لها.

تلخيص البحث أتى في تصنيف الأمم حسب نوعية الاقتصاد، ولم يستعمل الباحث ألفاظ «الاقتصاد الموجه» و«الاقتصاد الحر» على صعيد المقارنة إلا نادراً. استبدلت المقارنة بين «اقتصاد استخراجي»، وهو يعتمد على استفادة قلة يستخرجون فوائد الاقتصاد ويتركون للباقين الفتات، و«اقتصاد شامل، أو ضامم»، وهو الاقتصاد الذي يهدف إلى مشاركة أوسع شريحة ممكنة من المواطنين في فوائده.

يقول البحث إن النمو الاقتصادي الثابت لأي أمة يجب أن يبدأ بوجود سلطة مركزية محددة وقادرة على فرض القانون على كافة المواطنين وعلى كامل المدى الجغرافي لهذه السلطة. لكن مركزية السلطة وقوتها لا تكفيان للدفع إلى النمو إلا إذا اقترن ذلك بالحرية الفردية وتخلي السلطة عن السيطرة أو احتكار الأنشطة الاقتصادية والإبداعية والمبادرات الفردية للمواطنين.

بناءً على ذلك فإن تعويذة نجاح الأمم مبنية على توازن دقيق بين سلطة القانون وحصرية احتكار العنف الشرعي بهذه السلطة وبين حرية الأفراد.

فوق كل ذلك يأتي مصطلح عنوانه «التدمير الإبداعي»، وهو يعني بأن أي تقدم علمي أو تقني سيؤدي حتماً إلى خسارة بعض من الناس لمصادر رزقهم أو لسلطتهم المادية والمعنوية.

أحد الأمثلة هو ما يحل بالحرف التقليدية في مواجهة مصانع تنتج السلع ذاتها بكلفة أقل وبكميات أكبر، مثل آخر هو اندثار سلطة العرافين والمشعوذين مع تقدم المعارف وأهمها الطب، مثل ثالث هو السلطة المطلقة والتوريث السياسي في مواجهة حرية اختيار الحاكم من خلال الاقتراع السري…

في لبنان خليط من كل ما يعوق النمو، وخليط من كل ما يدعم النمو، ومع ذلك فلم نختر حتى اليوم الطريق الصحيح.

من ناحية الحكم وإدارته، فقد بقي لبنان سليماً من وباء السلطة المطلقة بالرغم مما أصاب الكيانات القائمة حوله، وذلك ببساطة بسبب التركيبة الطائفية التعددية التي منعت إنشاء سلطة فعلية، أي حكومات تحكم بالفعل في كل جوانب الأمن والنمو والأحوال الشخصية… وقد أدى ذلك في بداية إنشاء الدولة ونهاية الانتداب إلى بروز نوع من السلطة التوافقية بين الكتل الطائفية – الإقطاعية، ونوع من الديموقراطية وحرية الانتخاب. لقد ساهم كل ذلك في تحسين الأداء الاقتصادي ووضع لبنان لفترة من الزمن في مصاف الدول ذات الدخل المتوسط، وإن كان ذلك من دون قواعد إنتاج ثابتة.

لكن سلطة تطبيق القوانين بقيت هشة، فوقعت تحت هيمنة التوازنات الطائفية السياسية التي لم تلبث أن اهتزت بشكل عنيف من خلال حروب أهلية متعددة، غيبت بالكامل معالم السلطة المركزية وأنتجت مجموعات مسلحة عديدة، وما المثل الحالي في لبنان سوى واحد من تلك المظاهر.

من ناحية الحرية الاقتصادية، فقد بقيت قدرة المبادرة وتمويلها تحت رحمة أصحاب السلطة ومن يناصرهم، وحتى الوظائف الرسمية والحكومية كانت دائماً خارج التنافس الحر، وبقيت مرهونة لأصحاب السلطة من إقطاع سياسي وطائفي تحت عنوان براق هو المحافظة على «التوازن بين المكونات الوطنية».

وحتى ضمن الطوائف لم تكن الكفاءة هي معيار التوظيف، بل كانت التبعية المطلقة لصاحب النفوذ والاستعداد لتجاوز المعايير القانونية لخدمته، حتى أن بعض القيادات كانت تتعمد اختيار عناصر أقل كفاءة لتبقى تحت سلطتها بالكامل.

أما عن الفساد، فعنوانه الأساسي هو كما يلي «الارتزاق خارج المعايير القانونية ومن دون أي جهد فعلي فكري أو يدوي أو استثماري». وهذا الفساد بالذات أصبح معمماً ويشارك فيه معظم المواطنين بطريقة أو بأخرى، وأصبح بوضوح تحت مظلة سياسية طائفية تعتبرها كل فئة من مكتسباتها المستحقة والمقدسة لدرجة أن أي محاولة للإصلاح اصطدمت دائماً بسواتر الحماية الطائفية.

لذلك فإن كل تلك الصولات والجولات في حملات «دونكيشوتية» حول الفساد، ستبقى زوبعة في فنجان لن تتعدى حدود النجاح الإعلامي طالما أن مواقع الفساد الكبرى لا تزال محصنة بالإقطاع السياسي الطائفي المذهبي.

أما عن الحراك الشعبي القائم اليوم فقد يكون فيه بعض معالم الثورة التي قد تحمل التغيير إن وصلت إلى حد التدمير الإبداعي القادر على ضرب منظومة التوازن الوطني الطائفي والإقطاعي، والتي أدت في ما أدت إلى حروب أهلية متكررة ونشوء الميليشيات التي منعت قيام دولة تحتكر قواتها الشرعية فرض السلطة. لكن القواعد الصارمة التي فرضت على الشعارات التي يرفعها الحراك والتي تستثني، تحت طائلة القمع البلطجي، بعض المرجعيات المذهبية، واستثناء الحديث عن الفساد الأمني المتمثل بوجود ميليشيات مسلحة تحت مسمى المقاومة، مصحوباً أحياناً بشعارات موروثة من أيام تفشي الحقد الطبقي، لا تبشر بكثير من الإنجازات.