تأمين مصادر تمويلها بشكل مستدام ورشيد وإيجاد آلية إيصالها إلى مستحقيها هما أصعب ما يواجهها
يتعلّق ثلاثة أرباع الشعب اللبناني “الغارق” في الفقر بـ”قشة” البطاقة التمويلية. لكن المشكلة لا تنحصر في أن القشة لا تنقذ الغريق، إنما في الآمال الزائفة التي تحاول السلطة بناءها في لعبة تقطيع الوقت. فالهروب من مواجهة حقيقة الإصلاح المرة تدفع المسؤولين إلى بيع الأمل الزائف بغض النظر عن نتيجته وكلفته المستقبلية.
أوجه الشبه بين البطاقة التمويلية وسلسلة الرتب والرواتب التي أعطيت قبل سنتين كثيرة جداً. فالإثنتان أُقرتا على عجل تحت ضغط الشارع، بعيداً من دراسة نتائجهما المستقبلية. أما في المضمون وهنا الخطورة فان البطاقة ستتآكل وستتهاوى قيمتها الشرائية بعد أسابيع قليلة من طرحها، كما تلاشت الزيادة على الرواتب بأضعاف مضاعفة. هذه العملية تُطلق عليها الباحثة الإقتصادية ليال منصور إسم “وهم المال”، فيظن المستفيدون أن قدرتهم الشرائية ارتفعت، فيما هي في الحقيقة تنخفض بنسبة أكبر نتيجة ارتفاع الأسعار وازدياد معدلات التضخم… والسلسلة خير شاهد.
مصادر التمويل مجهولة
في حال رفع الدعم، عدد الأسر التي يُفترض أن تستفيد من البطاقة التمويلية “750 ألف عائلة، تشكل 75 في المئة من مجمل عدد الأسر المقيمة في لبنان”، بحسب المشرف العام على خطة لبنان للاستجابة للأزمة د. عاصم أبي علي، “ذلك أن رفع الدعم سيؤدي إلى ارتفاع كبير في أسعار مختلف السلع والمنتجات ويحد من قدرة الأغلبية العظمى من العائلات ذات الدخل المتدني على تأمين أبسط المتطلبات”.
قيمة البطاقة لم تحدد بشكل واضح لغاية اليوم، وكل الأرقام التي تتراوح بين 800 ألف ليرة ومليون و300 ألف هي محض توقعات. فالمبالغ التي ستتيحها البطاقة هي رهن بالتمويل ومصدره. الإحتمالات ليست كثيرة، وهي تنحصر بثلاثة أساسية:
الأول، ستمول مما بقي من إحتياطيات عملة أجنبية في مصرف لبنان والمقدرة بأحسن الأحوال بمليار دولار. إلا أن هذا التمويل يكفي لمدة سنة فقط إذا افترضنا أن قيمة البطاقة ستكون 1.3 مليون ليرة. فالكلفة السنوية لدعم 750 ألف عائلة تبلغ 11 ألفاً و700 مليار ليرة. في حين أن صرف المليار دولار المتبقي على سعر 12 الف ليرة يساوي 12 الف مليار ليرة. كما أن هذه النظرية تفترض رفع الدعم بشكل كلي عن كل السلع والخدمات وحصرها فقط بالبطاقة.
الثاني، سيجري تمويلها من الموازنة. وهذا أمر شبه مستحيل في ظل تراجع إيرادات الدولة بسبب الأزمة الإقتصادية وإقفال المؤسسات وارتفاع نفقاتها على الرغم من التوقف عن سداد الدين. هذا إلى جانب تعرض الدولة للضغوط من الجهات الدولية المفترض بها مساعدة لبنان، من أجل تخفيض عجز الموازنة ليصل إلى 100 في المئة من حجم الناتج.
الثالث، ستمول من القروض والمساعدات الدولية، وهذه الآلية تفتقد إلى الإستمرارية. وهي بجميع الاحوال تراكم ديوناً على لبنان بالعملة الصعبة من الصعب تسديدها.
إذاً الحل الوحيد المتاح لتمويل هذه البطاقة، التي من المفترض أن تصمد لسنوات طوال، سيكون عبر طباعة النقود. وهذه الآلية ستؤدي إلى نتائج تضخمية كارثية، وتُفقد الأموال المعطاة للفقراء قيمتها الحقيقية. بحيث أن المساعدة بقيمة مليون و300 الف ليرة، (تعادل اليوم 100 دولار تقريباً)، ستصبح بعد فترة ليست بطويلة حوالى 50 دولاراً، في حال وصل سعر الصرف الدولار إلى 25 ألف ليرة.
الإستهداف الأصعب في العالم
هذا العائق الأساسي الذي تواجهه البطاقة التمويلية، تضاف اليه مشكلة ثانية لا تقل أهمية أو خطورة، وتتمثل في تحدي إيصال هذه البطاقة إلى الأسر المستحقة فعلاً. هذه العملية قد تكون “أصعب عملية استهداف على صعيد لبنان”، يقول أبي علي، “لاننا نفتقد إلى آلية موثوقة لتحديد دخل الأسر. فعلى عكس كل دول العالم التي من الممكن بسهولة تحديد الأفراد من مصلحة الضرائب، لا يوجد في لبنان مصدر موثوق لقياس الدخل. فلا إحصاءات فعلية، والكثير من المواطنين والمصالح والأعمال الفردية غير مسجلة في مصلحة الضرائب، والحسابات المصرفية محمية بالسرية، ومؤشرات الضمان الإجتماعي تتضمن الكثير من الحشو، والمعلومات المصرح بها تكون في أحيان كثيرة غير دقيقة، أو لا تطابق الواقع الفعلي وتتسم بعدم الوضوح”. وبالتالي يؤكد أبي علي على أن “استهداف الأسر المحتاجة في لبنان عملية بالغة التعقيد، وقد تكون الأصعب على المستوى العالمي”.
أمام هذا الواقع تنطلق وزارة الشؤون الإجتماعية، بحسب أبي علي، في تحديد الأسر المحتاجة من “قاعدة بيانات ومعلومات الأسر الأكثر فقراً الموجودة لديها؛ وهي حكماً شريحة مستأهلة للبطاقة. من بعدها سيؤخذ بالمسجلين على منصة impact والبالغ عددهم لغاية اليوم أكثر من 400 ألف طلب، وسيجري التدقيق بالطلبات ومقاطعة المعلومات. وبرأي أبي علي فان “المطلوب اليوم توفير استمارة الكترونية سواء كانت على المنصة الموجودة أو على منصة أخرى مختصة تفسح المجال أمام الجميع بتعبئة بياناتهم”. وفي هذه المرحلة تطالب الوزارة المواطنين بأكبر قدر من المسؤولية. بمعنى أن لا تتقدم العائلات الميسورة، أو من تستفيد من تحويلات خارجية بشكل مستمر للحصول على البطاقة، وإفساح المجال أمام المحتاجين الفعليين. فعدد الطلبات ممكن أن يصل بحسب أبي علي إلى “900 ألف، وتصفيتهم لا تشكل ضغطاً وتؤخر العملية فحسب، إنما قد تكون مسألة جهنمية بكل ما للكلمة من معنى”.
الإستمارة إلكترونياً
لتسريع توزيع البطاقات في هذه الظروف الصعبة سيتركز التحقق من المعلومات أثناء الزيارات المنزلية لتوزيع البطاقات من قبل فريق عمل الوزارة. وهنا يمكن لفريق الوزارة التأكد من الظروف الحياتية والمعيشية للأسرة. مع العلم أن هذه الآلية قد تشوبها بعض الثغرات نتيجة عدم تواجد المستفيدين في منازلهم أو أماكن سكنهم الحقيقية، لكن أمام كثرة الأعداد وضغط الوقت قد تكون هذه هي الآلية الوحيدة المتاحة.
معلومات على البطاقة
لغاية اليوم يبلغ عدد المستفيدين الفعليين من دعم الدولة نحو 288 ألف أسرة، تتوزع على الشكل التالي: 238 ألف أسرة تستفيد من 400 ألف ليرة عبر “البرنامج الوطني للتكافل الإجتماعي”، التي يوزعها الجيش. وهناك حوالى 50 ألف أسرة تستفيد من مساعدات الإتحاد الاوروبي والدولة الألمانية من ضمن “برنامج استهداف الأسر الأكثر فقراً”. الجدير بالذكر ان البطاقة ستشمل بالإضافة إلى العائلات الفقيرة موظفي الدولة ومتقاعدي الأسلاك العسكرية. وهي ستقدم لكل الأسر التي لا يكفيها دخلها وتحتاج إلى المساعدة. أمّا المدة الزمنية لهذه البطاقة فهي متوقفة على سرعة استعادة البلد عافيته وعودة النشاط الإقتصادي وتحسن سعر الصرف. ولكن ليس من المتوقع الإستغناء عن هذه البطاقة قبل 3 سنوات، من دون أن يُعرف إن كانت ستتغير قيمتها بحسب تغير الظروف المعيشية. إلا انه قياساً على ما يجري من تعطيل وفشل سياسي وخلافات على الخطة الإقتصادية، فان المدة الزمنية لهذه البطاقة قد تطول، بغض النظر إن كانت ستحافظ على قيمتها أم لا.
أمام هذا الواقع يبقى الخلاص بالإصلاح. وما لم تعتمد خطة واضحة لتوزيع الخسائر وتحديد أطر كيفية النهوض واستعادة الثقة وجذب المساعدات والإستثمارات، فان الآليات لن تفشل فحسب، بل ستكون كلفتها أكبر على المواطن والإقتصاد.