Site icon IMLebanon

مبادرة فيّون تشجع النازحين المسيحيين على العودة.

 

حمل رئيس الحكومة الفرنسية السابق فرانسوا فيون خلال الأيام الماضية الى لبنان مبادرة مهمّة تهدف الى دعم مسيحيي الشرق الأوسط وتثبيتهم في أرضهم ودولهم، لا سيما بعد محاولة زعزعة استقرار دول المنطقة وتهجير أبنائها من لبنان ودول المنطقة من قبل التنظيمات الإرهابية التي شرّدت مسيحيي العراق وسوريا وبعضاً من مسيحيي مصر. كما أدّت كثافة النزوح السوري في لبنان الى هجرة عدد كبير من أبنائه المسيحيين (وغير المسيحيين) الى الخارج بحثاً عن لقمة العيش.

 

وتنصّ المبادرة، على ما أعلن فيون، على إنشاء مؤسسة خاصّة في فرنسا برأسمال لا يقلّ عن 15 مليون يورو لتشجيع المسيحيين على البقاء في أوطانهم في الشرق من خلال نشاطات تثقيفية وتربوية وبرامج عمل لتأمين المساعدة اللازمة لذلك». وأفادت مصادر سياسية مطّلعة بأنّ إطلاق هذه المؤسسة سيحصل في باريس قريباً بعد أن يقوم فيّون بجولة على دول المنطقة التي ينوي دعم المسيحيين فيها.. وسيبدأ إثر ذلك عمله في الضغط على الحكومات الأوروبية، بطريقة استراتيجية، لإيلاء الوجود المسيحي في الشرق الأهمية اللازمة كعنصر إستقرار وسلام فيه، وللقيام بكلّ الخطوات المناسبة لحماية هذا الوجود من أي محاولة جديدة لاقتلاعه من أرضه.

 

وشجّع الدعم الذي لقيه فيّون في لبنان من قبل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، والبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، ومتروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده للمضي قُدماً في مبادرته هذه، على تسريع العمل في مشروعه المقترح، على ما ذكرت المصادر، وعلى تأمين الدعم السياسي والمالي له.

 

ولأنّ هذه المؤسسة، على ما يرغب، فيّون، ستقوم بتمويل تعليم المسيحيين في دولهم الأصلية، ومن ثمّ تأمين فرص العمل المناسبة لهم في بعض المشاريع التي ستُنجزها فيها، فإنّ ما سيقوم به، من شأنه تشجيع النازحين السوريين في لبنان، وكذلك العراقيين، وربما الفلسطينيين من المسيحيين أيضاً، العودة الى أوطانهم، على ما أوضحت المصادر نفسها، سيما أنّ المساعدات التعليمية لأبنائهم ستحصل فيها، وليس خارجها. ومن شأن هذه الخطوة أن تُخفّف من عدد النازحين السوريين من المسيحيين الذين يقطنون في لبنان، في الشقق السكنية وليس في الخيم، ويُنافسون الشباب اللبناني على بعض المهن، كونها تُشجّعهم على العودة الى سوريا والبقاء فيها لاستكمال تعليم أولادهم من المساعدة الفرنسية والأوروبية.

 

وتقول المصادر أنّ فيّون بدأ بإطلاق مبادرته الإنسانية والدينية والديموغرافية والسياسية والديبلوماسية القيّمة من بيروت كون علاقة الصداقة التي تربط بين لبنان وفرنسا تعود الى أكثر من ألف عام، وكون هذا البلد هو الأكثر تضرّراً من الأزمة السورية بسبب وجود عدد كبير من النازحين السوريين، واللاجئين الفلسطينيين، والمهجّرين العراقيين، يكاد يصل الى نصف عدد سكاّنه. ولأنّ نسبة كبيرة من النازحين في لبنان أبدوا رغبتهم في العودة الى بلدهم، بحسب ما ذكرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين العاملة في لبنان، لكنّهم لا يجدون ما يُحفّزهم على هذه العودة في ظلّ الضائقة المالية والإقتصادية التي يعانون منها إثر النزوح، فإنّ مشروع فيّون يؤمّن لهم هذا الحافز على الأقلّ، كونه يُشكّل أحد العناصر الضرورية للعودة.

 

ففي ظلّ فشل المجتمع الدولي في إيجاد الحلول المناسبة لأزمات دول المنطقة من فلسطين الى العراق فسوريا، والأردن ولبنان اللذين يعانيان من تداعيات النزوح السوري عليهما بشكل كبير، فإنّ تحرّك فيّون هو لحثّ ليس بلاده فقط، إنّما الدول الأوروبية مجتمعةً على ضرورة مساعدة دول الشرق الأوسط في المرحلة الراهنة. وينطلق بمشروعه هذا من نظرته الى ضرورة الحفاظ على تعددية دول الشرق الثقافية والدينية، ولا سيما منها لبنان كونه يُمثّل نموذجاً يجب أن يُحتذى به للتعايش بين المسيحيين والمسلمين، ولتجاوز الإنقسامات السياسية والطائفية في المنطقة، والحفاظ على التوازن الذي بُنيت عليه الدولة اللبنانية.

 

وفي رأي المصادر، إنّ ما يقوم به فيّون مستمد أيضاً من نظرته الى العودة الى أصل مسيحي لفرنسا، وما شهدته كاتدرائية «نوترودام» أخيراً في باريس، يؤيّد فكرته هذه بضرورة الحفاظ على الوجود المسيحي، ليس فقط في الشرق، إنّما أيضاً في الدول الأوروبية التي تعرّضت خلال العقود الماضية الى «غزو» عربي إسلامي. فما يخشاه فيّون هو تغيير هوية فرنسا والدول الفرانكوفونية في الشرق، وموقفه هذا لا علاقة له بأي تعصّب ديني أو عنصري، إنّما ينطلق من ضرورة الحفاظ على الأصول والجذور والأرض الأصيلة والكيان والثقافة والهوية التاريخية لهذه الدول.

 

وأفادت المصادر بأنّ المسؤولين السياسيين والدينيين المسيحيين في لبنان قد شجّعوا هذه المبادرة كونها تؤمّن جزءاً من تثبيت مسيحييه في أرضهم. ولحظت بأنّ هذا الأمر مهمّ وضروري للحفاظ على المسيحيين في لبنان ودول الجوار، على ما يُشدّد الفاتيكان ويدعو دول العالم لدعمهم ومساعدتهم للبقاء في دولهم. وذكّرت المصادر بأنّ عدد المسيحيين آخذ في الإنخفاض أكثر فاكثر، بسبب الهجرة الواسعة النطاق التي تسبّبت بها الإضطهادات ومعاداة المسيحية، فضلاً عن العوامل الإقتصادية والصراعات السياسية والعسكرية، حتى أصبحوا أقليات في الشرق. ولهذا يفكّر فيّون بتأمين ما تحتاجه هذه الأقليات في دولها لكي تبقى فيها، فبعد أن شكّل المسيحيون في لبنان أكثرية بنسبة 65%، وذلك قبل الحرب، انخفض عددهم حالياً الى درجة لم يعد يتعدّى الـ 39 أو 36% فقط من عدد سكّان لبنان. كذلك ازدادت هجرة المسيحيين في فلسطين مع حربي العام 1948 و1967، فبعد أن بلغت نسبة الفلسطينيين المسيحيين نحو 85% في العام 1947، انخفضت الى 40% في العام 1998، لتصبح أقلّ بكثير اليوم. وفي العراق تكرّر الأمر نفسه، فبعد الإطاحة بالرئيس صدّام حسين، فرّ مئات الآلاف من مسيحييها الى الخارج، وفي حين كان عددهم نحو مليون و400 ألف مسيحي قبل الحرب، انخفض بعدها الى 500 ألف، وهو مستمرّ في التناقص. وفي سوريا كذلك، كان مسيحيّوها يُشكّلون نحو 30% من سكان البلاد مطلع القرن العشرين، على ما أفادت المعلومات، حتى أصيبوا بالهجرة في منتصف القرن. وبعد اندلاع الحرب في سوريا، انخفض عدد المسيحيين نحو مليون (من 2.2 مليون الى 1.2 مليون). وفي مصر، بدأت أولى موجات هجرة الأقباط الى الخارج بعد ثورة تمّوز 1952 مباشرة، ومع صدور قانون التأميم، ولا سيما أنّهم كانوا أكثر المصريين ثراء وبعد انتزاع أملاكهم. ثمّ توالت الهجرة مع اندلاع أي حادث له صبغة طائفية في عهد الرئيس أنور السادات، لتزداد هذه الموجة في عهد الرئيس حسني مبارك بعد الثورة الشعبية والإضطهاد الديني لهم. وبعد تولّي محمد مرسي الرئاسة بحلول العام 2012 كان 10 آلاف قبطي مسيحي قد فروا من البلاد. الأمر الذي أدّى الى انخفاض عدد الأقباط المصريين بنسبة كبيرة على مرّ السنوات، فبعد أن كانوا يمثّلون نحو 20% من سكان مصر باتوا يُشكّلون اليوم نحو 10% فقط منهم.

 

ولهذا، يفكّر فيّون وكثيرون مثله، بضرورة الحفاظ على الأقليات المسيحية المتبقية في الشرق الأوسط، والقيام بكلّ ما يُمكن لزيادة عددهم مجدّداً، بدلاً من السعي لتهجيرهم أو لتشجيعهم على الهجرة الى الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأميركا اللاتينية وأوستراليا وأوروبا وسواها، وذلك من خلال تعليم أبنائهم حيث هم، وزيادة فرص العمل لهم. فهل تؤدّي مبادرة فيّون الغاية المطلوبة منها في ظلّ ارتفاع نسبة البطالة في لبنان ودول الجوار، وإيجاد الأجيال الصاعدة في الهجرة خيط النجاة؟!