بطريقة أو بأخرى، يُحاول «حزب الله» إقناع اللبنانيين بأن معركة جرود عرسال التي يخوضها اليوم، بالنيابة عن النظام السوري والتي تصب أوّلاً وأخيراً في مصلحة المشروع الإيراني في المنطقة، تصب في مصلحتهم ومصلحة البلد، وبأن التكلفة التي يدفعها من دماء عناصره هناك، من شأنها أن تحقن دماء أبنائهم في المستقبل وأن تحميهم من المشروع «التكفيري» الذي يُهوّل به على أنه بدأ يطرق أبواب المناطق اللبنانية كافة. لكن كل هذا الخوف أو الحرص الذي يُبديه الحزب، يأتي على قاعدة «لولا حزب الله لكان داعش يقيم حواجز في جونية».
منذ بداية الحرب السوريّة، سمح «حزب الله» لكل هذا الإرهاب الذي يطوّق لبنان بأن يفرد لنفسه مساحات واسعة في الجرود وبأن يُقيم تحصينات بدأنا اليوم نتلمسها ونشاهدها على الشاشات بـ «فضل» الاعلام الحربي التابع للحزب، ما يستدعي العديد من الأسئلة، حول الظروف أو المساعدات التي هيّأها الحزب والنظام السوري لهؤلاء الإرهابيين، إن بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء عن طريق غض الطرف عنهم لفترة تزيد عن أربع سنوات حتى وصلوا إلى ما هم عليه اليوم وما باتوا يُمثلونه من خطر، أو من خلال الدعاية التي فعلت فعلها وصوّرتهم على أنهم مشروع زرعته دول كشوكة في خاصرة «المقاومة»، وذلك على عكس ما يُشاهده اللبنانيون اليوم من حالات فرار جماعي لهؤلاء وخسائر لا ترتقي على الإطلاق إلى حجم التهويلات التي كانوا يوصفون بها.
ثمة تأكيدات اليوم أن هذه الجماعات الإرهابية التي تم زرعها عند الحدود اللبنانية، ترعرعت كل تلك الفترة، في كنف النظام السوري وهو سهّل لها طرق عملها في أكثر من مجال وتحديداً في الشق المتعلق بإدخال السيارات المفخخة عبر معابر كان يُسيطر عليها هذا النظام قبل فترة إنسحابه من لبنان وبعدها، ليتم تفجيرها في لبنان بطريقة كان واضحاً انها تهدف إلى إحداث إقتتال مذهبي، وما شبكة ( سماحة – مملوك )، إلا جزءاً من هذا المخطط الذي أُفشل بفضل حكمة السياسيين اللبنانيين ووعي الشعب. والملاحظ أيضاً في الشق المتعلّق بتسهيل عمل الجماعات الإرهابية على الأراضي اللبنانية، تواجد نقطة عسكرية ثابتة لتنظيم «داعش» في جرود القاع لا تبعد أكثر من مئة متر عن مراكز لـ «حزب الله». والأمر نفسه بالنسبة إلى النظام السوري الذي تبعد مراكز هذا التنظيم عن أمكنة تواجده في جرود فليطة، عشرات الأمتار. ومع هذا، لم تُلحظ أي معركة بين الحلف «الممانع» وبين هؤلاء العناصر في تلك الأمكنة، وذلك منذ فترة طويلة.
من المؤكد أن اللبنانيين لن يأخذوا لا بمحاولات «حزب الله» تبرير حربه في جرود عرسال، ولا بدعوتهم إلى الإلتفاف حول مواقفه خصوصاً إذا كان هذا الإلتفاف على شاكلة دعواته خلال حرب تموز التي توحّد فيها اللبنانيين جميعهم حكومة وشعباً، في مواجهة العدوان الإسرائيلي، لكن «الإنتصار» الذي حقّقه الحزب يومها، عاد وانقلب على لبنان كلّه قصفاً ورعباً وقتلاً. ولذلك ثمة تخوّف كبير من «إنتصار» الحزب في جرود عرسال لما سيترتب عليه من تداعيات جديدة على كل اللبنانيين والشروط التي سوف يُحددها أو يفرضها «حزب الله» عليهم، ومنها الذهاب إلى مؤتمر تأسيسي من شأنه أن ينسف النظام اللبناني من أساسه، خصوصاً وأن هذا المؤتمر هدفه إعادة بناء الدولة على النحو الذي يتناسب مع المشروع الإيراني في المنطقة.
ساهم «حزب الله» إلى جانب النظام السوري، في صناعة وحياكة وجود «التكفيريين» في الجرود اللبنانية، والأمر نفسه مارسه النظام في مخيم نهر البارد في العام 2007، وفي الحالتين، كانت المؤسسة العسكرية المُستهدفة الأبرز وسقط لها شهداء وجرحى وأسرى. من هنا يبرز بيت القصيد بشكل واضح وهو أن لا شرعية لسلاح الحزب ولا غطاء له مهما بلغت إدعاءاته أو علا سقف تحريضاته وتخويناته. فالشرعية الوحيدة في مواجهة أي حالة شاذة، تُستمد فقط من وجود الجيش صاحب العقيدة الصلبة والراسخة في ضمير كل لبناني والمخوّل الوحيد الدفاع عن الأرض. ومن فعل هذا الأيمان به وبدوره، تُستمد شرعية الجيش، لا من فعل «الشيطنة» وتجيير «الإنتصارات» لصالح مشاريع خارجية مشبوهة ومشوّشة، مرّة على «طريق القدس» والدعوات إلى تحريرها، ومرّات بتأمين ممرّات آمنة للإرهابيين.
أمس، رأى عضو المجلس المركزي في حزب الله الشيخ حسن بغدادي أنه «لم يكن حزب الله ليخوض هذه المعركة، لو أن المسلحين قبلوا بالتفاوض ضمن الشروط المعقولة، ولكنهم أصروا على غيهم وربما راهنوا على مساعدة بعض الأعداء وهم بحاجة إلى من يُساعدهم، وهذا ما جعل الخطر على المنطقة المحاذية للجرود وعلى أمن لبنان يكبر، مما استلزم معركة تطهير الجرود منهم، كي نضمن امن لبنان». ولكن أين كانت هذه المفاوضات يوم سُمح لهذا الإرهاب بالتقدم إلى بلدة عرسال وخطف جنود وعسكريين من الجيش وقوى الأمن الداخلي؟ أين كانت هذه الغيرة على جزء كبير من الأراضي اللبنانية، يوم اعتبر الحزب أن المعركة الأبرز هي في القلمون وبعدها دمشق ثم حلب ثم مضايا والزبداني؟ أين كان موقع لبنان في الحرب التي خاضها الحزب والتي بدأها بمجموعة شعارات منها: «حماية المقامات»، «الدفاع عن القُرى الأمامية» ثم «حماية لبنان»، وذلك قبل أن يعود ويتلف كل هذه الشعارات ويلتفّ عليها بكلام للسيد حسن نصرالله قال فيه «النظام السوري لن يسقط»، ثم دعوته لاحقاً القسم الأكبر من اللبنانيين إلى المواجهة في سوريا تحت عنوان «فلنتقاتل هناك».
لدى «حزب الله» إصرار على تهميش الدولة ودورها في تسيير شؤونها. مرّة يفرض نفسه لاعباً سياسيّاً فيُعطّل إستحقاقات ومشاريع لا تعود عليه بالفائدة ولا تخدم إلا المشروع الذي ينخرط فيه، ومرّة يُنصّب نفسه مُدافعاً عن لبنان وشعبه مُستخدماً سلاحاً وُجد في الأصل بهدف تحقيق مشروع ما زال قائماً منذ مطلع الثمانينات، علماً أن مقاومة العدو الإسرائيلي في الجنوب أو غيره، حقّ مقدس كفله البيان الوزاري على أن يكون القرار الفصل للجيش. وللتذكير فإن المقاومة استمدت شرعية عملها من خلال انخراطها في مشروع قيل أنه يهدف أوّلاً واخيراً إلى دحر المحتل والدفاع عن الأرض. لكن أن يتحوّل استعمال هذا السلاح إلى رغبة دائمة وبشكل عشوائي مع استبعاد الدولة عن المشاركة في قرار الحرب والسلم، فهذا ما لن يرتضيه اللبنانيون ولن يمنحوه صكّ براءة ولا اعترافاً حتّى ولو تذرّع بضرب «التكفيريين» في الجرود ودعم الجيش على الحدود.