بالإذن من الصبوحة ـ رحمها الله ـ كان المشهد بالأمس كأغنيتها «صبّوا فوقك النّار.. وجبالك خضرا تعلا.. وجبينك صامد بوجّ بواريد الدنيي كلّها».. في 14 تشرين الأول من العام 1992 ضربت لبنان موجة حرّ شديد وطقس جاف ورياح ساخنة أقوى بكثير من التي حملها إلينا خلال اليومين الماضيين منخفض البحر الأحمر، يومها اشتعل لبنان كلّه من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه وجباله من الشّوف إلى المتن إلى كسروان لم تترك النيران مكاناً إلا والتهمته، يومها لم تكن الدّولة الخارجة من حرب أهلية، ولا تملك أدنى الإمكانيات لإطفاء هذا النّوع من الحرائق، لا أنسى تلك الليلة الملتهبة والهواء السّاخن وهو يعصف بشبابيك البيت، يُخيفني هذا الطّقس ولا يغمض لي فيه جفن، مضى الليل وأنا على مسبحتي ألوذ بالدّعاء، وأصبح الصّباح، خرجت جريدة السفير تتصدّر صفحتها الأولى صور الحرائق يعلوها مانشيت عريض «أكبر من كارثة وأقلّ من زلزال»، كانت مصر قد ضربها في 12 تشرين الأول زلزال مخيف استوحت الجريدة منه هذا العنوان، وهذا مثل من سنوات كثيرة حملت نفس الطقس وكذلك الحرائق.
من المخجل إلى حدّ العار أن تكون إمكانيات الدّولة اللبنانيّة في العام 2019 ما تزال كحالها قبل 27 عاماً في العام 1992؟! كم مرّة حدّثونا عن أنّهم أعدوا خططاً لإدارة كوارث الحرائق، وهم كاذبون، كم علينا بعد أن نصدّقهم، لا حُجّة البتّة للذين يتكاذبون اليوم ولا يزالون يدّعون أنّهم يتفاجؤون بها كلّ عام وفي هذا الموسم بالذّات! سابقاً كانوا يلقون التهمة على أصحاب المشاحر وموعد تجارة الفحم، بالأمس سمعنا المسؤولين يلقون بالتّهمة على مجهولين، وسمعنا آخرين يلقون بالتهمة على السوريين، وهذه تهمة منذ ثماني سنوات يتم إلقائها عليهم المهمّ أن لا تتحمّل الدّولة مسؤوليتها، أين إحتياطات هذه الدّولة الفاشلة وتحضيراتها لتسبق الكارثة، أو على الأقلّ تحتاط لها؟!!
«كل كم سنة» نعيش هذه المأساة، لأنّها لا تأتي بنفس القوة بحسن «شتوات أيلول»، ولا يتذكّر المسؤولون أن «يشحدوا» طائرات الإطفاء إلا «بعد وقوع الفاس في الراس»، إلى ما بعد ظهر الاثنين حتى تدخلت الطائرات القبرصية لإطفاء النيران! يحقّ لنا أن نساءل المسؤولين ما الّذي فعلوه هم ممّا يترتّب عليهم من واجبات؟ هل منعوا الشاحنات المشبوهة من رمي النّفايات في الواديان؟ زجاجة واحدة تكفي لإشعال النار، وتعسّ النار شيئاً فشيئاً وبعد بضع ساعات وطقس كهذا ورياح ساخنة تصبح حريقاً هائلاً!!
هذا النّوع من الكوارث يحدث في كلّ البلدان، حتى في الولايات المتحدّة الأميركيّة في موسم الحرائق وتبقى النيران مشتعلة لأسابيع، هل تذكرون نيران اليونان وحرائقها العام الماضي، بل هل تذكرون قبل «كم سنة» عندما بكينا على احتراق حرج الصنوبر التاريخي في منطقة دير القمر.. السؤال الذي يبقى معلّقاً من دون جواب: أين الحكومة النائمة نومة أهل الكهف، الحكومة المستقيلة من تحمّل مسؤولياتها مجدداً نقول: هذه الحكومة من الأساس لا تملك لا مشروع إصلاح ولا خطّة عمل، هذه الحكومة عاجزة حتى عن إدارة كارثة إطفاء حرائق، فكيف نصدّق أنّها قادرة على إنقاذ البلاد؟!!
أخيراً لا بُدّ لنا من أن نتوقّف عند الّذين «لا يستحون» من إثارة النّعرات الطائفيّة وبثّ كلام فتنوي في الأوقات اللبنانيّة الحرجة، هناك بعض من فريق دائماً يتحيّن ليستثمر حتى في الكوارث الكبرى والمآسي التي تضرب اللبنانيين في بيوتهم وأرزاقهم، أسوأ من النيران التي كانت تجتاح أراضي لبنان كان كلام النائب ماريو عون وهو يرمي بكلامه الطائفي في وجه الحرائق التي طالت جميع المناطق اللبنانيّة علّه ليزيد الحرائق اشتعالاً، لم يخجل حضرته من التصريح عبر شاشة الـ otv متسائلاً: «ليش الحرايق ما بتصير إلا بالمناطق المسيحية»، لا يقال في هكذا كلام إلا «يا عيب الشّوم»!