IMLebanon

أزمة الرئاسة الأولى في خضم المفاجآت والمناورات

وقائع من مناكفات رجالات الاستقلال والجنرال سبيرز

أزمة الرئاسة الأولى في خضم المفاجآت والمناورات

ومعلومات دولية تبرر الصراعات المحلية والأزمات لبنان تعب من رتابة الاحداث، ضاق ذرعاً بكثافة الفساد، وبات مثل مواطن يتضور جوعاً، ولا يجد رمقاً يسد فيه حاجته الى لقمة خبز.

قال ذلك الوزير السابق الدكتور خالد قباني، وهو يودع رئاسة مجلس الخدمة المدنية، ليذهب الى الحياة العامة التي أعطاها الجهد الكبير طوال وجوده في الحكومة وزيراً، أو في رئاسة مجلس الخدمة، راعياً للكفايات العامة.

وذات يوم سأله صديق، عن سبب ايجاد مكتب له في السراي، وعادة لا يتيح رؤساء الحكومات ذلك، لغير من يحتل الرئاسة الثالثة في السلطة.

ضحك الوزير قباني، وهو يكب على الملفات المكدسة على مكتبه، وأحجم عن الكلام، وصرف الانظار عن اعطاء جواب طرحه عليه صديق يكن له الاحترام والتقدير.

الا ان زائراً آخر للسراي، تطوع للجواب، وأوضح أنه ربما يحتاج رئيس الحكومة الى معالجة مسألة قانونية، فيلجأ اليه في الوقت المناسب للجواب المناسب.

الا ان الوزير قباني، بادر بأنه لا مكتب لديه ليجلس فيه، وقد استأذن رئيس مجلس الوزراء الذي يتمتع بمكاتب عديدة وخاوية، أن يقوم بعمله في جواره، وهو عمل عام لا خاص.

ومبرر هذا الحوار، هو المبادرة التي أطلقها الرئيس سعد الحريري، وهو خارج لبنان، باقتراح اسم النائب سليمان فرنجيه لرئاسة الجمهورية، بعد اجتماعهما في العاصمة الفرنسية، للخلاص من الشغور المستمر في موقع الرئاسة الأولى منذ عام وثمانية أشهر تقريباً.

هبطت مفاجأة ترشيح النائب فرنجيه، هبوط مطر غزير على الناس، وعلى ٨ و١٤ آذار، لأن الأولى تعتبر الرئيس العماد ميشال عون مرشحها الأساسي، والثانية سبق ورشحت رسمياً، وتبنى هذا الترشيح خصوصاً رئيس تيار المستقبل سعد الحريري بالذات، وقال مراراً أن الدكتور سمير جعجع هو مرشح ١٤ آذار.

ومجلس النواب التأم ثلاثين مرة، ولم يكتمل النصاب فيه، لاجراء الانتخابات الرئاسية، واستمر الاخفاق في تأمين النصاب خلال احدى عشرة جلسة حوار عقدها رئيس البرلمان في ساحة النجمة وفي مقر الرئاسة الثانية في بيروت.

ما هي قصة المفاجأة؟

والجواب أن لها أكثر من جواب. أولاً لأن النائب فرنجيه هو من أركان ٨ آذار، وإن كانت له أحياناً بعض المفارقات. وثانياً، لأن ثمة ثلاثة مرشحين في ١٤ آذار للرئاسة الأولى هم الرئيس أمين الجميل والنائب الشيخ بطرس حرب والدكتور جعجع.

طبعاً، تسارعت التطورات، وسافر الوزير بطرس حرب الى باريس، وتداول في الموضوع الرئاسي مع الشيخ سعد، وكيف تجاوز رئيس الوزراء السابق المرشحين الثلاثة في ١٤ آذار، ورشح خصمه السياسي وخصم حلفائه الثلاثة.

الا ان الاجتماع الاهم تم في الرابية، عندما قصد النائب فرنجيه، زعيم التيار الوطني الحر وأطلعه على ظروف ترشيح الرئيس الحريري له.

لكن السؤال الأساسي تناول أسباب الترشيح المفاجئ، وهو، أي النائب فرنجيه، قال بعد عودته من باريس، وفي أثناء تلبيته دعوة الاستاذ وليد جنبلاط الى تكريمه والى اعلان دعمه له، على الرغم من ترشيحه للنائب هنري حلو للرئاسة الأولى.

طبعاً، كان للجنرال عون عتب على حليفه الوزير فرنجيه، كما كان لرئيس تيار المردة أجوبته ومبرراته. الا ان الصداقة قد يكون أصابها الاهتزاز، الا انها لم تبلغ حدود الانفكاك. كما ان التحالف الذي جمع اركان ١٤ آذار يشوبه نوع من الخلاف.

وكل فريق يريد ان يعرف مدى التواصل لاحقاً بين الجميع، خصوصاً وان ما قام به مغترب كبير في نيجيريا، يترك اكثر من علامة استفهام، لكن انتسابه الى المنطقة نفسها التي يمثلها في المجلس النيابي والمرشح لرئاسة الجمهورية، يطرح الكثير من الأسئلة.

وهذا ما جعل السفير الأميركي السابق هيل قبل انتقاله من لبنان الى الباكستان ومجيء السفير جونز الى بيروت بصفة قائم بالأعمال، وبدء جولاته على القيادات اللبنانية، يترك هامشاً كبيراً للدور الأميركي في تظهير معالم الرئاسة الأولى في لبنان.

ووفق المعلومات المتسربة، من جهات دولية، فان الأميركان نصحوا زعيم المستقبل بأن يرشح الوزير سليمان فرنجيه للرئاسة الأولى، منذ عدة اسابيع، لأن لا حل للأزمة السورية من دون اقناع الرئيس بشار الاسد، ومعه سوريا، بأن يتخلى عن السلطة، ويمهد لقيام سلطة سورية جديدة، وهذا لا يمكن تسهيل قيامه، الا بحل سياسي في لبنان، يمهد لانتخاب رئيس جمهورية، لا تشعر سوريا، ولا الرئيس بشار الاسد بأنه معاد لها.

وفي هذا الصدد، شددت الولايات المتحدة على استبعاد رئيس لبناني معروف بتعاطفه مع الجمهورية الاسلامية الايرانية، ولا يكون شريكاً مباشراً في الحرب الدائرة بين النظام السوري والمعارضة في سوريا. وتردد ان كلاماً لطيفاً جرى تسريبه الى سوريا وايران بهذا المعنى، وان الرئيس الأسد نصح بالوقوف على رأي الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله.

وخلال المشاورات الدائرة منذ اسابيع، نصح الرئيس سعد الحريري بطرح اسم الوزير فرنجيه، المعروف بحرصه على استقلالية مواقفه، وبتعاطفه مع سوريا وبصداقته للرئيس بشار الاسد، خصوصاً وان العماد عون معروف هو الآخر، بتحالفاته الصلبة مع السيد حسن نصرالله وتعاونه الوثيق مع حزب الله خصوصاً في القضايا العامة.

ويقول مرجع بارز، ان السيد سعد الحريري والرئيس العماد عون والسيد سليمان فرنجيه يهمهم، تجاوزاً للمأزق الرئاسي المستمر، التوافق على قانون انتخابي جديد، لكن العماد عون يتمسك بالقانون النسبي كلياً أو جزئياً، في حين ان الحريري وفرنجيه، يتعاطفان مع النظام الأكثري، ولا سيما مع قانون العام ١٩٦٠، لكنهما منفتحان على تطبيق الطائف كلياً، وعلى اعتماد المناصفة وعلى تكثيف الدوائر، وفقاً لما أقره اتفاق الطائف.

وثمة عقبات تعترض انتخاب الوزير فرنجيه قريباً، أبرزها تأجيل مواعيد جلسات الحوار كما حددها الرئيس نبيه بري بسبب انهماكه في قبول التعازي هذا الاسبوع بعد وفاة شقيقته.

واصرار العماد عون على اجراء الانتخابات النيابية قبل الرئاسية، وفي حال تمسك حزب الله بموقف الجنرال فان هذا يعني صعوبة تأمين النصاب، ولو وقف الاستاذ وليد جنبلاط الى جانب تسريع الانتخابات، كما ان ما تردد عن احجام الرئيس بري ونواب حركة امل عن المشاركة في اي جلسة يقاطعها حزب الله عن الحضور الى البرلمان، مسألة تجعل الانتخابات صعبة الحدوث.

وقصة الصراع على رئاسة الجمهورية قصة طويلة، تشبه في بعض فصولها، قصة الصراع السياسي في العصر الاستقلالي الاول، بين الشيخ بشارة الخوري وخصمه الرئيس اميل اده. الا ان الدور الذي كان يمثله الرئيس رياض الصلح كان اساسيا في تحديد مستقبل الوصول او البقاء في الرئاسة الثالثة.

الا ان قضية وجود رياض الصلح الي جانب الشيخ بشارة، كانت تشغل بال زعماء الطائفة السنية، خصوصاً لدى نائبي طرابلس، سماحة المفتي عبد الحميد كرامي والرئيس سعد المنلا، ولدى زعماء بيروت الرؤساء عبدالله اليافي وصائب سلام وأحمد الداعوق وتقي الدين الصلح.

وهذا ما أضفى طابعاً حاداً على الصراع خلال وجود المفوض السامي البريطاني في بيروت الجنرال سبيرز.

ويروى في هذا المجال ان الجنرال سبيرز امضى آخر ليلة له في بيروت مع زوجته اللايدي جين في ١٥ كانون الاول ١٩٤٤.

ترك الجنرال سبيرز لبنان والبلد مثقل بالعيوب، بعد تفاقم الازمة التموينية، مما جعل رياض الصلح يضطلع بها، لما لها من صلة برغيف الناس الامر الذي جعله هدفاً للمعارضة. ولم تمض ثمان وأربعون ساعة على رحيل سبيرز عن العاصمة، حتى وصل الامير مجيد ارسلان الى القصر الجمهوري وفي جيبه كتاب استقالته من وزارة الصحة ومن حقيبتي الدفاع الوطني والزراعة.

وسأله الرئيس بشارة الخوري عن السبب، فرد الأمير مجيد بأنه لا يشعر بأنه ركن في هذه الحكومة.

وربَّت الشيخ بشارة على كتف صديقه الدستوري العريق وقال للأمير مجيد ارسلان:

– اذا لم تكن انت الركن.. فمن يكون الركن اذن؟

قال الامير مجيد معتزاً بما سمعه من رئيس الجمهعورية:

– أشكر عاطفتك يا فخامة الرئيس.. ولكن صديقنا رئيس الوزراء لا يبدو أنه من هذا الرأي. انه لا يحفل ببعض مطالبي الزراعية والتموينية. وقد صبرت على ذلك طويلاً وحق لي الآن أن أحسم الموقف!

ورد بشارة الخوري كما اورد في مذكراته:

– انت تعرف يا امير ثقل المهمة التي على كاهل رياض. اننا نحاول تطهير الدوائر والمؤسسات من اثار الانتداب. وهذه ليست بعملية يسيرة. اننا لم نتفرغ بعد لمشاكلنا الداخلية كما ينبغي!

قال الأمير مجيد:

– أولا تريد استقالتي اذن؟!

قال الشيخ بشارة:

– اولاً: الاستقالة تقدمها الى رئيس الحكومة وليس لي. ثانياً: استقالتك مرفوضة!

وطوى الشيخ بشارة الاستقالة في جيبه وقال:

– رياض أخونا وصديقنا.. وعلينا أن نساعده لا ان نثير في وجهه المتاعب!

ويقول الشيخ بشارة في مذكراته عن تلك الحقبة الزمنية:

لعل مؤرخ الحوادث التي نحن بصددها يجد عذراً لحكومة رياض الصلح بأنها مرت بأصعب الايام وأشدها حلكاً، في البلاد عساكر اجنبية، ونقود اجنبي،. ودولة تدعي لنفسها دوام الانتداب علينا. والطوائف مقسمة، والاحزاب غير منظمة، وبعض الفئات طرية العود، بينما الفئات الأخرى كثيرة الخوف أو التخوف، وفئات تتطلع الى المستقبل مستبقة الحوادث. وفئات تحن الى الماضي فتعرقل الحاضر وتهدم ما يبنى على غير رضائها، وكثير من الناس قليل الثقة بنفسه. لكننا لم نبال، وأكملنا الطريق يحدونا الايمان القوي بمقدرات وطننا وبحقه الصراح في الحرية، ويوحدنا التفاهم الصميم الذي ساد علائقي برياض الصلح، وتلك الشرارة التي انطلق منها الميثاق الوطني.

وتغلغل الشيخ بشارة بمذكراته في عمق المشكلة يومئذٍ حيث قال: ليال سهرناها، والنوم لم يزر جفوننا، ومعضلات يومية تعترض السبيل ويجب حلها دون ابطاء ومراحل شاقة ممسك بعضها برقاب بعض، وأيام مرهقة نستعيد ذكرياتها بفخر ونكاد لا نصدق اننا قضيناها ونفذنا منها.

وتعايش الشيخ بشارة مع الالم المبرح في كتفه بأعلى درجات الاحتمال. ولكن استجد امر طارئ أصابه الارتباك. فقد جاءه وزير الخارجية سليم تقلا ينبئه بأن تيرنس شون الوزير البريطاني المفوض الذي حل مكان الجنرال سبيرز، موجود منذ اكثر من عشرة ايام في لبنان، ويريد ان يقدم اوراق اعتماده، ولا يجوز ان تطول المدة اكثر، حتى لا تتحرك مطابخ التفسيرات والشائعات على هواها.

وقال الشيخ بشارة سليم تقلا:

– أنا معك ولكن كيف تريدني ان اتسلم اوراق الاعتماد امام عدسات المصورين وانا احمل هذه الآلة الحديدية على كتفي، وهي تمنعني من ارتداء اللباس الرسمي؟

تبسم سليم تقلا وقال:

– لا عليك يا فخامة الرئيس سوف نتدير الأمر!

كان يوم تقديم اوراق الاعتماد يقع في الثاني والعشرين من كانون الأول ١٩٤٤، فتقدم الوزير المفوض شون ضمن المراسم المعهودة في القصر الجمهوري عند تقديم السفراء لأوراق اعتمادهم، واصطحبه مدير المراسم جورج حيمري الى الطبقة العليا من القصر، ولما دخل الصالة الكبرى فوجئ بالرئيس بشارة الخوري يرتدي عباءة.

رحب به الشيخ بشارة وقال له:

لقد بقي أي سبيرز الى الدقيقة الأخيرة غير مؤمن بوصولي الى رئاسة الجمهورية، بالرغم مما اعتقده الناس عن وجود اتفاق بيني وبينه ليوصلني الى الرئاسة! والحقيقة ان رئاستي كانت لبنانية صرفاً ولم تكن وليدة مساعدة بريطانية.

ثم يعزز الشيخ بشارة لبنانية المعركة فيقول:

والحقيقة ايضا ان ايمان الجنرال سبيرز بي لم يتبلور الا بعد راشيا عندما قال لي: كانت مساعداتنا السياسية والعسكرية قد ذهبت جميعها هباء منثوراً لو ضعفت أو ساومت يا فخامة الرئيس.

إلاّ أن زوجة سبيرز كانت حريصة على انصاف رئيس الجمهورية في مذكراتها، وقد حثّ خلفه على الاطلاع على محتوياتها، ودعاهم الى الإصغاء الى ما كتبته السيدة جين سبيرز في كتابها عن قصة الاستقلال: في العام ١٩٤٤.

في كل مكان كانوا يسألونني: نحن نسمع أن ديغول سوف يأتي، وانه سيرسل الى هذه البلاد فرقتين جديدتين اشارة الى مرحلة ما بعد انزال النورماندي. هل تعرفين؟ هل سمعت شيئا من مثل ذلك؟! يقولون ان الفرنسيين سيفرضون الانتداب علينا من جديد، وان حكومتك قد وافقت، وان الجنرال أي سبيرز قد استقال، وانه راجع لمجرد العودة بك الى الوطن. وكنت أطمئنهم وأحمل الى نفوسهم الثقة أبداً. أجل إنه سيعود. وان بعثة سبيرز لن تقفل أبوابها. وديغول لن يعود ولن يبعث بجنود آخرين. وكيف يستطيع ذلك؟ كانت فرقه في فرنسا.

ثم أضافت: أما في ما يتعلق بالحكومة البريطانية فيتعين عليهم أي على اللبنانيين ان لا يركنوا للشائعات. لقد أعطت حكومتنا كلمتها، وايس ثمة محل لاعادة النظر في مسألة الانتداب الفرنسي. تلك مسألة قد انتهت. أوليس لهم ثقة في بريطانيا العظمى؟! أو يعتقدون اننا لم نصدق وعدنا، واننا نساوم الفرنسيين عليهم. ثم نبيعهم لهم؟! لقد بذلت جهدي لوضع النقاط على الحروف ومع ذلك فالشائعات لا تزال تملأ الجو، وكلما تقدمت بنا الأيام والأسابيع اتخذت شكلاً جنونياً صاعداً.

لم تحدد اللايدي سبيرز مصدر تلك الشائعات، وفي ذلك تقول:

لم أبحث عن مصدرها. كنت أعرف. لا أحب أن أعرف. كانت علاقاتنا مع الفرنسيين في بيروت حسنة أو تكاد منذ وصول المندوب الفرنسي الجنرال بينه وقرينته. لقد وجدت السيدة بينه فاتنة حقاً، ووجدت الجنرال مقبولا رغم ما فيه من جفوة. ولقد تناولنا طعام الغداء معهما قبل أن يغادرنا ادوارد. وتناولا بدورهما طعام الغداء معنا. كذلك دعونا معاً الى مأدبة أقامها لنا الكونت أوستروروغ وأخرى في امارة البحر الأميرالية الفرنسية بضيافة القومندان فاتو وقرينته. والواقع ان مدام فاتو غاضبة عندما جاءت أنباء الانزال في النورماندي: لماذا غزت الجيوش الأميركية والبريطانية فرنسا؟! ألم يكن في استطاعتهم ان ينزلوا على الأرض البلجيكية بدلاً من فرنسا.

انحسر الوجود الأجنبي عن لبنان ولو بالشكل، لكن الصراع بين السياسيين اللبناني سقط، وصار كل زعيم يعمل لصالحه، كما هي الأمور سائرة الآن وأهمها الروابط التي جمعت بين عبد الحميد كرامي وهنري فرعون وتم التفاهم على ان يكون عبد الحميد كرامي قطب الاستقلال هو من سيخلف رياض الصلح في رئاسة الحكومة.

إلاّ أن عبد الحميد كرامي وجد في زميله سعدي المنلا حليفاً لا منافساً.

وعقد اجتماع في منزل عمر الداعوق لمعالجة الأزمة، وحضر الى هناك بشارة الخوري فطلب الداعوق الترحيب به، على رغم الوعكة الصحية المصاب بها، وبادر مرافقيه:

– اسمحوا للشيخ بشارة أن يدخل.

ودلف الشيخ بشارة داخل الغرفة، وقال لعمر الداعوق:

– أولاً.. سلامتك من الوعكة يا عمر بك. ثانيا أحب أن أطرح عليك سؤالا واحدا ثم أمضي..

قال عمر: تفضّل يا أخ بشارة..

فسأله الشيخ بشارة: أريد أن أعرف: هل أنت معي في معركة الرئاسة؟!

فلم يجب عمر الداعوق، بل مدّ اليه يده، وإلتقت اليدان بحرارة..

وفهم الشيخ بشارة معنى هذه الحركة فخرج مطمئنا…

فالذي حدث بعد ذلك أن عمر الداعوق أحب أن يجتمع بصديقه عبد الحميد، ولما تم الاجتماع قال له:

يا أبا رشيد.. لقد زارني الشيخ بشارة وأعطيته الوعد بأن نسانده. فليس من المعقول أن نترك سياسيا منفتحا على العروبة مثل بشارة الخوري، لمصلحة اميل اده المنغلق على العروبة..

ورد عبد الحميد:

– لا يمكن أن أرد طلباً لأخي عمر!

وكان عمر الداعوق يملك متجراً للمجوهرات في الجانب الأيمن من سوق الطويلة، وعبد الحميد يتردد عليه، بين وقت وآخر، ليتناول فنجان قهوة، ويحادثه في بعض المواضيع. وذات ظهيرة خرج الاثنان من المتجر الى غداء في الجوار، فشاهدا رجلاً يحمل السلم بالطول، لعله طراش، أو نجار.. فقال عمر الداعوق لعبد الحميد كرامي مداعباً:

– أرأيت يا أبا رشيد؟! هذا الرجل أفضل منّا لأنه يحمل السلم بالطول ونحن نحملها بالعرض! وكان على عبد الحميد أن يحمل سلّم رئاسة الحكومة بعد ذلك… بالعرض!!

ولعل الشيخ بشارة أول من فتح الباب أمام رئيس الوزارة الجديد للتشاور مع رئيس الوزارة السابق قبل تأليف الحكومة. وفي ذلك يقول في مذكراته:

استقبلت عبد الحميد كرامي ليلة ٤ من كانون الثاني يناير ١٩٤٥ وقلت له بأن يشكل الوزارة المقبلة. وكان ابن عمي ميشال شيحا يرى من الحكمة تولية عبد الحميد في هذا الظرف بالذات فرافقه لمقابلتي، وعرضت معهما الحالة الراهنة، وأظهرت لعبد الحميد المصاعب التي تعترضه، ولم أكتمه قبول رياض المبدئي بالاعتزال، ولكنه قبول على مضض، ثم نصحت له بأن يتصل للوقت بسلفه قبل أن يأتي أي أمر، وان لهما من الأصدقاء ما يكفل الانتقال بأحسن ما يمكن، مع تجنب أزمة حادة بلادنا بغنى عنها.

ولم يقدم رياض الصلح استقالته بالسرعة التي تمناها الشيخ بشارة. فقد كان بيته في شارع عمر بن الخطاب رأس النبع يغص بالزوار والمريدين، ودخل عليه أبو عفيف كريدية سيد الشارع الشعبي في صباح من تلك الأيام وقال له وهو يشد بيده على قبضة عصاه:

– باطل تستقيل يا رياض بك. هيدي مؤامرة!!

واتصل به عبد الحميد، وجالسه في منزله، وقال ان الاستقلال أمانة في عنقه، مثلما هو أمانة في عنق رياض. ولكن جلساتهما التي تكررت لم تصل الى نتيجة محسومة، مما استدعى ان يدخل على الخط كل من مفتي الجمهورية الشيخ محمد توفيق خالد، وعمر الداعوق. الأول لاقناع رياض بالاستقالة، والثاني لاقناع عبد الحميد بأن يستأنس برأي رياض في شكل الحكومة…

وتضامن الوزراء جميعا مع رياض، فلم يبد أي منهم بدءا من حبيب أبو شهلا، نائب رئيس الوزارة، رغبة في دخول وزارة عبد الحميد، ومثله حميد فرنجيه، والأمير مجيد ارسلان. وحده سليم تقلا الممسك بمفاتيح وزارة الخارجية والخبير بملفاتها دخل وزارة عبد الحميد التي أعلنت يوم التاسع من كانون الثاني وكان يوم ثلاثاء. إلاّ أن القدر لم يتح لسليم تقلا في الحكومة الجديدة إلاّ ثلاثة أيام من العمر. فقد دخل على الشيخ بشارة طبيبه الخاص الدكتور الياس بعقليني والدمعة في عينيه وقال:

– تصبّر يا فخامة الرئيس، لقد توفي سليم تقلا بسكتة قلبية.

وانتفخت أوداج الشيخ بشارة من فرط التأثر لسماع الخبر وقال:

– يا عدرا! منذ يومين زارني هنا وكان في أتم الصحة والعافية.

إلاّ أن استقالة رياض الصلح، والاتيان بعبد الحميد كرامي ليس أمراً يسهل مروره، خصوصا وان رياضاً من زرع جذوره في صميم الحياة النيابية، وان عبد الحميد كرامي وقف مع بشارة الخوري في معركة رئاسة الجمهورية ضد اميل اده، وهذا ما حمل نائب كسروان جورج زوين على حجب الثقة عن الحكومة بتهمة انها حزبية، وانه يريد حكومة وحدة وطنية.

كان ذلك الجو متعارضا تماما مع جو رياض الصلح وأعضاء الحكومة السابقة بدءاً من حبيب أبو شهلا، وحميد فرنجيه، والأمير مجيد ارسلان. ولكن رياض الصلح النائب لم يكن أقل فروسية من رياض الصلح رئيس الوزارة، فتمنى النجاح لرئيس الحكومة عبد الحميد كرامي في الحقل الذي نجحنا فيه والحقل الذي يقال أننا لم ننجح فيه، وشدّد على ضرورة تعديل الاتفاق مع بنك الاصدار بنك سوريا ولبنان وتخفيف الأعباء عن الفقراء، وتعزيز سلطة الجيش، ولم يتردد في الدفاع عن المرحوم سليم تقلا وتسفيه نشرات زعمت ان سليم تقلا يملك عقارات في أحد أسواق بيروت، وما هو بمالك، بل مات دون ثروة ولا رصيد مصرفي، مما حمل رئيس مجلس النواب صبري حماده على طلب تخصيص عائلته بمعاش اضافي على التقاعد، وجاءت الموافقة بالاجماع لما للرجل من عزيز المنزلة!

هنا تنفتح الستارة عن قصة غريبة عجيبة وضعوا الشيخ بشارة في صحنها، وهي قصة الدكتور داهش، ذلك الانسان الموهوب بحاسة سادسة كشفت له الغيب، وأعطته قدرة التنبؤ والاستشراف، وأدخلته في عائلة ماري حداد، أخت السيدة لور عقيلة رئيس الجمهورية، وكان بيتها في زقاق البلاط، على مسافة أمتار من قصر هنري فرعون، والمعلومات تقول ان الدكتور داهش، وهو لقب أعطاه إياه مريدوه، مثل طبيب الأمراض الجلدية الدكتور جورج خبصة، والدكتور فريد أبو سليمان، والشاعر حليم دموس، قدم من العراق، وكان اسمه سليم العشي، واتخذ له بيتاً في محطة النويري مقابل بيت رئيس النجادة عدنان الحكيم. وكان يشتهر بدخول الحائط والخروج منه عند الطرف الآخر، واعادة خاتم ضائع الى سيدة مجتمع، بعدما قطعت الأمل في العثور عليه، وكان يتنبأ بوجود طفل مريض داخل احدى العائلات، دون أن تكون العائلة قد أخبرت أحداً بذلك، وقد كان نائب عكار والوزير السابق المرحوم بشير العثمان من أصدقائه دون أن يكون داهشياً.

إلاّ أن بشارة الخوري لم يكن راضياً بأن يكون بيت شقيق زوجته ماري حداد مسكوناً بالدكتور داهش، فطلب من وزير الداخلية وديع نعيم بأن يصدر قراراً بطرد الدكتور داهش من لبنان باعتباره أجنبياً وغير مرغوب فيه.

وكانت الظروف يومئذ لميثاق جامعة الدول العربية وقد ترأس وفد لبنان الى هذا الاحتفال التاريخي رئيس الوزراء عبد الحميد كرامي ومعه وزير الخارجية هنري فرعون ووزير لبنان المفوض يوسف سالم، وعدد من الصحافيين العرب بينهم عبدالله المشنوق. وكانت الرحلة من بيروت الى القاهرة براً، ومن الناقورة استقل عبد الحميد كرامي وهنري فرعون القطار الى حيفا، ثم العريش، ثم صحراء سيناء، ثم السويس، وصولاً الى القاهرة. وفي ذلك يقول الصحافي عبدالله المشنوق:

– توجه دولة الرئيس كرامي ورجال الوفد عقب نزولهم من القطار الى سراي عابدين في مصر الجديدة حيث سجلوا أسماءهم في سجل التشريفات ثم عادوا الى المفوضية اللبنانية في الجيزة، وكان يرافقهم وزير لبنان المفوض الأستاذ يوسف سالم.

ويصف عبدالله المشنوق موقع المفوضية اللبنانية في الدقي عند منطقة الجيزة كاتباً:

– تقع المفوضية اللبنانية في أجمل ضواحي القاهرة، على ضفاف النيل، تحيطها الحدائق الغنّاء، وهي كناية عن فيللا مصرية غاية في الفخامة والأناقة تتألف من طابقين فسيحين: الأول للاستقبال والطعام والثاني للمضافة، والى جانبها جناح خاص لمكاتب المفوضية بناه صاحب الدار خصيصاً لهذه الغاية، وهي تخص المواطن اللبناني السيد نجيب صالحة الذي أجّرها للحكومة اللبنانية بأثاثها ورياشها بمئتين وثلاثين جنيهاً مصرياً في الشهر الواحد، ووضع سيارته الخصوصية تحت تصرف وزيرنا المفوض.

ثم جاء عبدالله المشنوق على ذكر الطربوش الملكي الذي جاء هدية الى عبد الحميد كرامي.

ولذلك قصة!

وسرّني أن أرى علمنا يخفق فوق السارية المفوضية وفوق سيارة الوزير المفوض وابتهجت لرؤية صورة فخامة الرئيس الأول تزين صدر البهو الكبير وتمنيت لفخامته مع الأخوان الشفاء القريب.

وأخذت الوفود من المصريين والجاليتين اللبنانية والسورية تزور المفوضية مرحبة بدولة الرئيس وصحبه أعضاء الوفد، وكان يستقبلهم الوزير المفوض يوسف سالم ورجال المفوضية باللطف والايناس ويقدمونهم الى دولة الزعيم كرامي الذي كان يتنقل بينهم من حلقة الى حلقة ويتحدث اليهم أحاديث الوطن ويطمئنهم عن صحة فخامة اللبناني الأول.

كان على لبنان، بعدما أثبت وجوده في المحيط العربي، عبر الانتظام في ميثاق جامعة الدول العربية، واعتباره من المؤسسين الى جانب سوريا، والمملكة السعودية، والعراق، واليمن، وشرق الأردن، أن يثبت وجوده الدولي، بالمشاركة في تأسيس المؤسسة العالمية لتأمين السلام خلفاً لجمعية الأمم التي اجتاحتها الحرب العالمية الثانية، وقد عيّنت مدينة سان فرانسيسكو الأميركية مكاناً لاجتماع المؤسسين الجدد. ولكن كان شرط الاشتراك في مؤتمر سان فرانسيسكو هو أن يكون المنضم الى هذه المنظومة قد أعلن الحرب على ألمانيا، وإلاّ لا يعد مشتركاً. وقد كلفت الحكومة النائب الأستاذ حميد فرنجيه بالسفر الى أنقرة وتسليم الوزير المفوض الألماني هناك فون بابن كتاب اعلان لبنان للحرب على ألمانيا…

وهكذا انفتحت أمام لبنان الطريق الى سان فرانسيسكو.

وكان لهذا الانتصار الديبلوماسي، نشوة في قلب الرئيس عبد الحميد كرامي الذي أبرز دوره السياسي عربياً ودولياً.

ومن دواعي اعتزاز عبد الحميد كرامي أن يضع توقيع لبنان علي ميثاق الجامعة. فلطالما نادى طوال حياته السياسية بجمع شمل العرب، والدعوة الى الوحدة العربية، ولكنه عندما يتعلق الأمر بسيادة لبنان، فلا أحد يزايد على لبنانيته.

ومع كل الانجاز الذي حققه عبد الحميد كرامي في أعمال ميثاق الجامعة، فان حكومته لم تسلم من العواصف والسهام.