أقل ما يقال في احتفال الذكرى السنوية الأربعين لاغتيال مؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي وزعيم الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط، ومن شارك فيه من شخصيات وحشود بشرية، من وصل منها الى ساحة المختارة، ليس أكثر ممن ضيّعت عليهم الزحمة فرصة الوصول، انه استفتاء بالحضور الشخصي المباشر، وبرفع الصوت، بدل التصويت، خلف الستارة، وبالأكثري أو النسبي، أو حتى المختلط.
والاستفتاء، بالمعنى السياسي، تواصلي بين الماضي والحاضر، على الإرث الوطني لكمال جنبلاط كما على زعامة وليد جنبلاط السياسية والوطنية، فضلا عن حيثية المختارة في المعادلة الدرزية، والتي اعتبرها الرئيس الراحل فؤاد شهاب بالنسبة للدروز بمثابة بكركي للموارنة، عندما طُلب منه كقائد للجيش مهاجمتها، بوصفها معقل قائد انتفاضة ١٩٥٨، كمال جنبلاط…
وشكلت المشاركة السياسية في هذه المناسبة حالة تضامنية جامعة مع وليد جنبلاط، في موقفه الارتيابي من مشاريع قوانين الانتخابات المقترحة، وفي طليعة المشاركين الرئيس سعد الحريري الذي بكّر في الوصول بحدود السابعة والنصف صباحا، ولاقاه النائب علي بزي ممثلا الرئيس نبيه بري فالوزير حسين الحاج حسن ممثلا حزب الله، ونائب رئيس القوات اللبنانية جورج عدوان على رأس وفد من رؤساء البلديات، وتمثل التيار الوطني الحر بالزميل جان عزيز، وكان الحضور الدبلوماسي العربي والدولي كثيفا. كما شكلت، هذه المشاركة في ذات الوقت، مروحة تهدئة وتطمين، برّدت أجواء الخطاب الجنبلاطي المختصر والمختزل، والذي احتوى الكثير من التلميحات والتذكير والتحذير، لكن ضمن اطار الاستعداد للتضحية من أجل السلم والحوار والمصالحة، والبعد عن مغامرة العنف والدم أو الحرب….
أبرز ما تمخضت عنه المناسبة، فتح جنبلاط وصيته السياسية بنفسه وأمام الملأ… عندما خلع كوفية الزعامة الجنبلاطية عن كتفيه، ووضعها على كتفي نجله تيمور ودعاه الى السير رافع الرأس حاملا تراث جدّك الكبير كمال جنبلاط، واحضن شقيقك أصلان بيمينك وشقيقتك داليا بيسارك.
وما لا يدركه الكثيرون في أهمية هذه الخطوة الحكيمة، ان تيمور جنبلاط، أصبح أول زعيم للمختارة، بمعانيها الدرزية والوطنية، يتقلّد منصبه من مورثه…
فمنذ أيام بشير جنبلاط، لم يتسلم زعيم للمختارة الزعامة من صاحبها، إلاّ بعد وفاته، واغتيالا في الغالب. فبعد مقتل بشير جنبلاط تسلّم الزعامة سعيد جنبلاط، الذي قتل، وبعده مات شقيقه نعمان منفيا في السودان، ثم آلت الزعامة الى فؤاد جنبلاط جدّ وليد الذي أغتيل أثناء مطاردة أحد المطلوبين، وبعده تسلم كمال جنبلاط الراية من غير متسلمها، كما حصل لاحقا، مع نجله وليد، الذي قرر ان يكسر هذه القاعدة ويسلّم نجله تيمور كوفية زعامة المختارة على حياته، وفي مثل هكذا مهرجان، فاق حضوره كافة التوقعات.
يبقى عنوان الخطاب، والذي كرره جنبلاط في كل فقرة من كلمته: ادفنوا موتاكم وانهضوا…
تكرار هذه العبارة، حرّك مشاعر الكثيرين، الى حدّ الانقباض والقلق، والحقيقة ان هذه الكلمات هي عنوان ديوان للشاعر الفلسطيني سميح القاسم، الذي قضى مؤخرا بداء التهاب الكبد، وهو موجّه الى المقاومة الفلسطينية الذي أتى على ذكرها جنبلاط، مع كل مقاومة لاحتلال، كي تدفن موتاها وتنهض، ولا تتكاسل أو تحبط، فالحياة مستمرة والصراع مستمر.
ويبدو ان ترداد جنبلاط لهذه الكلمات، أتى بمثابة تمهيد لخاتمة كلامه الذي استرعى الانتباه: اذا جاء القدر، ادفنوا موتاكم وانهضوا، أي تابعوا المسيرة…
انها وصيّته الشخصية التي أقلقت كل من كان له مستمعا… وقد سبق لوالده ان سجّل آخر قول له قبيل اغتاليه: اللهم اني قد بلّغت… اللهم أشهد.
وهذا قول للرسول في خطبة الوداع.