بُعيد انتخابه قال الرئيس اللبناني ميشال عون إن الحكم الحقيقي على «العهد» يكون بعد تشكيل أول حكومة إثر الانتخابات النيابية. ردّ الرئيس موقفه في حينه إلى قناعة مفادها أن حكومة منبثقة من مجلس نيابي ممدد له خمس سنوات لن يكون بمقدورها تحمل مسؤولية الانتقال بالبلد من حال إلى حال، والحقيقة أن وعوداً أُطلقت، والعديد من السياسيين، لا سيما أولئك الذين برزت لديهم شهوة السلطة، تفاخروا كثيراً بالحديث عن الحكم القوي وأوهام القوة. كل الناس استمعوا إلى مقولة الرئيس القوي، وتطور الأمر إلى أحاديث عن الأقوياء في طوائفهم وإلى الدولة القوية، ولأن أهل الحكم، على ما يرددون، كلهم من أقوياء أجمعوا على ضرورة تشكيل الحكومة القوية، حكومة «العهد» الأولى!
في بعض البلدان يستغرق تشكيل الحكومات عدة أشهر أحياناً، في ألمانيا بعد الانتخابات الأخيرة تطلب الأمر أشهراً طويلة من المحادثات الشاقة والتفصيلية حتى انبثقت الحكومة الألمانية الحالية. النقاش تناول كل شيء؛ السياسة والأمن وتسونامي اللجوء والضرائب والأجور وميزانيات الابتكار والجوار الأوروبي إلخ… وعند بلورة الرؤية والمنهج لم يتأخر إعلان التشكيل الحكومي الجديد. تبعاً لهذا المنطق لم يتأخر التأليف في لبنان، والرئيس الحريري لم يكمل الشهر الأول على تكليفه، لو كان هناك نقاش جاد بين أهل الحل والربط.
ليس الأمر عملية افتراضية فهناك قضايا كبيرة لا بد أن يتمحور البحث حولها، وكيفية إيجاد حلول لها، حتى تأتي حكومة الإنتاج والفعالية التي بشّر بها رئيس الجمهورية. يعني على من يحمل كرة نار التأليف الحكومي أن يرسم مع شركائه تصوراً لكيفية البدء بمعالجة الدين العام الذي تجاوز 100 مليار دولار، وبالطبع لا معالجة بالعودة لسياسة الاستدانة إياها، و«هندسات» المحاصصة المالية لحاكم البنك المركزي التي أدانتها المؤسسات المالية الدولية، وحذرت من آثارها السلبية على مجمل الأوضاع المالية والاقتصادية. ولا بدّ والبلد تلقى كارثة نزوح مليون ونصف مليون نازح سوري مع كل ما يترتب عن ذلك من أعباء مادية واجتماعية، من أن تكون هذه المسألة في الصدارة لتوحيد الرؤية وطرق المعالجة، لأن هذه الأزمة لا تعالج بإعلاء جدران من الكراهية والعنصرية، وباشتباك مكلف وخاسر مع الأمم المتحدة وكل المجتمع الدولي، عبر تحميل النازحين المسؤولية عن سوء الأوضاع في لبنان، ويذهب بعض أهل الحكم بعيداً في إطلاق التهم جزافاً، وينسى هذا البعض الدعم الدولي للبلد المحدود الإمكانات، والمثال الأقرب وجود «اليونيفل» منذ حرب العام 2006، وما أدى إليه هذا الوجود من تقديمات واستقرار وأمن وازدهار للجنوب.
إلى ذلك البلد الذي «دهمته» أزمة مرسوم التجنيس المشبوه فيما لبنان يحرم رسمياً الأمهات اللبنانيات من منح الجنسية لأولادهن، ألا يستدعي مثل هذا الأمر وقفة متأنية، والنقاش هنا لا يتناول الصلاحية الدستورية لرئيس البلاد، إنما يطال الشفافية والمعايير التي يُوجبها احترام هذه الصلاحية واحترام الدستور، ما يفترض كشف الحقيقة كاملة، من ومتى وكيف تمّ إدراج أسماء مشبوهة مالياً وأمنياً وقضائياً في المرسوم الذي تم التوقيع عليه من دون تدقيق، وأكثر من ذلك يجب أن يكشف التحقيق حقيقة الشائعات عن أموال دُفعت وحوّلت الجنسية إلى سلعة يحصل عليها من يدفع السعر الأعلى، وهو المرسوم الذي طالبت الكنيسة المارونية بسحبه «لأنه زعزع الثقة بهم، ولأنه مرسوم يصدر على حين غفلة… إلخ». وإذا كان المجال لا يتسع للتوقف أمام عناوين كثيرة من السطو على المال العام واتساع شبكات الفساد، فما قصة بوابات التهريب شبه الرسمية على كل المعابر البرية والبحرية والجوية، التي تحرم الخزينة من جزء أساسي من الواردات الجمركية وهنا الأرقام فلكية، فضلاً عن دور هذه البوابات بتغطية أعمال التهريب، هذا إلى ضرورة التوقف عند المصير المقلق الذي ينتظر الثروة النفطية والغازية المكتشفة في المياه الإقليمية، إلى بعض الأداء كما كُشِفَ مؤخراً عن وجود تغطية رسمية لمتهم بارتكاب جريمة غسل أموال في الباراغواي وفي أكثر من مكان، فمن هي الجهة التي تملك حق وضع البلد في اشتباك مع المجتمع الدولي، إلى فضيحة قرار السماح للرعايا الإيرانيين بزيارة لبنان من دون تأشيرات أو ختم جوازات، وهو القرار الذي منذ افتضاحه سارعت الخارجية اللبنانية للتبرؤ منه. طبعاً لا أحد يعتقد أنه بمقدور جهاز أمني اتخاذ مثل هذا القرار على مسؤوليته مع ما يعنيه ذلك من تحديد سياسة البلد وتوجهه، وأخذاً بالاعتبار ما يحمله من أبعاد خطرة على لبنان ستنجم عن فتح الأبواب أمام «الحرس الثوري»، وربما انتقال شخصيات إيرانية طالتها العقوبات الدولية يمكن أن تحول البلد منصة لخطط حكام طهران. ولأن المشترع حصر القرار بيد مجلس الوزراء مجتمعاً، وأناط برئيس مجلس الوزراء المتابعة، يكون من المستغرب عدم وضع هذه المسائل على رأس جدول أعمال تأليف الحكومة الجديدة!
لكن مهلاً.. كل ما تقدم لا يبدو أنه على جدول أعمال التأليف، رغم جرعات التفاؤل للرئيس المكلف عن «فريق حكومي»، فالقاسم المشترك بين «الأقوياء» تجاهل القضايا التي تطحن الناس، أما الإكثار من الحديث عن المخاطر الخارجية وهي حقيقية، ففي ذلك إقرار بأنه من المستحيل تأليف حكومة قادرة على العيش والفعالية دون أن تأخذ في الاعتبار وضع المنطقة والصراع الجيوسياسي، من سوريا والعراق إلى التطورات المتسارعة في اليمن. كل ذلك يكشف عن حقيقة وجود توافق غير معلن بين جهات داخلية على انتظار تطورات المنطقة وانعكاسها على التأليف، فيما يبقى الأجدى وجود حكومة تحمل آلام الناس وصعوبات البلد والتحديات الداخلية حتى تتوفر إمكانية مواجهة التحديات الخارجية. لكن الحقيقة المرة تؤكد أن النقاش لم يتناول إلاّ الأحجام والحصص ونوعية الحقائب الوزارية لكل فريق، البعض يريد لحزبه أو فريقه حقيبة سيادية، والبعض الآخر حقيبة وازنة والثالث حقيبة خدماتية… حفلة سريالية ومباريات عن عضلات كل فريق وقوته لتبرير الحصة التي يريد في كعكة الحكم، فيما هناك منتصر يستعجل تشريع فائض قوته بقطف ثمار الانتخابات واستباق عواصف المنطقة ومتغيراتها والحُديدة الآن نموذج، ومن يستقتل على موقع حكومي يرى فيه باب جنة المحاصصة، وهناك من يشي أداؤه أن الساعة دقت لإجراء مراجعة للتسوية التي أوصلت عون إلى القصر الجمهوري والحريري إلى السراي الحكومي، وكل ما يرشح يفيد أن شروط تأليف الحكومة تغيرت ومعها ستتغير شروط إعادة تكوين السلطة برنامجاً وأداءً، والأمر الملاحظ هو اتساع الممارسات التي تؤكد تكرار تجاوز النظام البرلماني ووثيقة الوفاق الوطني.
في نهاية المطاف ستُشكل حكومة «العهد» الأولى، التي ستكون صورة عن شبه دولة ومجتمع ضعيف مفكك واقتصاد مترنح وعدالة معلقة وقانون يطبق استنسابياً، ووحده الطرف القوي «حزب الله» المدعوم إيرانياً يذهب بعيداً في إملاءاته، مستفيداً من تملق الآخرين فيقضم البلد تعزيزاً لأوراق محوره، يقابله اتساع صراع الآخرين على الحصص، وتهميش ما كان من دور (وصلاحيات) لرئاسة الحكومة كلّف لبنان ثمناً كبيراً.