Site icon IMLebanon

أول حركة راديكالية ضد النظام الإيراني!

 

ماذا يمكن أن نسمّي ما يحدث في إيران في الفترة الأخيرة؛ ثورة إصلاحية جديدة؟ ثورة لإسقاط نظام الملالي؟ مجرّد ردود فعل لن تلبث أن تهدأ، أو تُقمع، أو تُحاصر أو تُستوعب؟ من هم الذين يخوضون المعركة في الميادين؟ ما هي قسماتهم؛ ما هي مواقعهم الفكرية؟ ما الذي يربط بينهم، بعدما تجاوزت الاحتجاجات طهران وأصفهان إلى مدن أخرى؟ هل هناك «قيادة» مُنظمة لهذه الحركة، برموز قديمة أو جديدة؟ هل المطالب اقتصادية؟ هل تحرّك المطالب الاقتصادية إيديولوجية ما، أو مركزية ما؟ أهي إدانة للقمع، والتضييق، والتحجّر الذي يُمارسه النظام؟ هل هي مطالبة بانسحاب إيران من حروبها العبثيّة، المرَضيّة، في عدد من البلدان العربية وأبعد؟

 

الواقع، أننا نرى قوة شعبية شبابية، جديدة، غامضة. بلا قسمات. وربما بلا مرجعيات. ولا قيادات. كل شيء يتسع يتطور أفقياً وعمودياً… أتذكّرنا انتفاضة اليوم بحركة «وقوفاً ليلاً» في فرنسا، أو الاعتصام في أميركا.. أو مجدداً بالربيع العربي! أو مجدّداً أيضاً بسقوط الاتحاد السوفياتي؟ لا جواب.

 

عام 2009 كان كل شيء واضحاً: الرموز معروفة: كروبي وحسين موسوي، وكانت الاحتجاجات رداً على تزوير الانتخابات الرئاسية وإنجاح أحمدي نجاد، على حساب «المير حسين». شرعية شعبية تُطالب بشرعية قانونية ودستورية.. وديموقراطية. قلّما تجاوز المحتجون بمطالبهم تغيير نظام «الجمهورية الإسلامية» (ورموز الإصلاح من صُنّاعها).

 

الهويات معروفة. منتمية. مرتبطة. مؤطرة. معروفة بين حركتين واحدة إصلاحية (برئاسة كروبي، وموسوي و(قبلهما منتظري)، وصولاً إلى الرئيس رفسنجاني)، وأخرى مُحافظة، مستبدّة، قامعة، عنيفة، وضربت هذه الحركات الاحتجاجية بوحشية.. وردّتها على أعقابها، واستفردت رموزها.. وفرضت عليهم الإقامة الجبرية.. وما زالوا محتجزين فيها حتى اليوم بظروف صعبة غير إنسانية.

 

في 2009 كان هناك نموذج مبكر للحركة الاحتجاجية يتمثّل بانتفاظة 14 آذارعلى الوصاية السورية، وكانت معظم الأنظمة الاستبدادية «آمنة» في بطشها، «مُعافاة» بصمت شعوبها، وهذا ما ذكره بعض المحتجّين آنئذٍ، ليضيفوا الثورة الأوكرانية… قبل ثورة الأرز.

 

لم تكن في تلك المرحلة عواصف تغيير، وقلب معادلات، وخروج واضح على الأفكار والأنظمة السائدة، لهذا كانت ملامح ثورة 2009 الإيرانية سياسية. مرجعيّاتها محدّدة. وكذلك رهاناتها.

 

أما اليوم، فالعالم كلّه ينقلب على نفسه، وعلى أسسه واتجّاهاته وارتباطاته. مرحلة خروج من التاريخ «القديم» إلى تاريخ آخر ربما مجهول أو معلوم… فالربيع العربي مندلع منذ 2011، وأدى إلى سقوط أنظمة، ومقتل رؤساء (القذافي)، وهروب آخرين (بن علي التونسي)، واستقالة حسني مبارك، وتحطم النظام السوري، وتقسيم سوريا إلى وحدات احتلالية، إيرانية، روسية، تركية، إسرائيلية، أميركية.. واشتعال جبهات اليمن.. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نفصل ما يحدث في العالم، القريب والبعيد، عما يجري في إيران اليوم. فالتغيير بسماته متنوّع، هنا شعبوي أو عنصري، أو إثني، أو ماضوي، أو محافظ، أو غير محافظ.. وهناك حروب ثقافية بين دُعاة الظلامية وإرث التنوير.

 

ريح التغيير

 

ريح التغيير تهبّ، حول إيران، سواء في الاتجاه المرجو أو غير المرجو.. من أميركا إلى بريطانيا إلى المجر، إلى ألمانيا.. وحتى إلى السعودية نفسها بإصلاحاتها التدريجية. إذاً، كل شيء يتحرّك، ونظام الملالي، جامد. ساكن. قديم. مهترئ. يعبق بالتحجّر، وموت الأفكار، وقمع الإبداع، ومصادرة الحرّية، وثروات البلاد، والتدخل العبثي في شؤون الجيران العرب، وإهدار مستقبل الشباب، واقتصاد البلاد، ونزف المرافق، وقتل الروح في الشعب الإيراني. وفرض الخضوع. والذل..

 

فكأنّ أزمة النظام، باتت شاملة، تمتد من «المرشدية» إلى القضاء، إلى الإعدامات، إلى الاغتيالات، إلى البرلمان، والحكومة.. فالأزمة الشاملة في النظام باتت تتخطى النوازع الجزئية، إلى ما هو في صميمه، في جوهره، حتى صارت مساراته المظلمة، وكأنها دستور لازب، أو تقاليد لازمة.. أو موت مُعلن.

 

الأولويات

 

إزاء هذا الوضع العمومي من الطرق المسدودة، والاستبداد، هل تستطيع «الحركة التغييرية» التي تعبّر عنها الميادين الإيرانية، بتظاهراتها، أن تختار أولوياتها، وتحدد بنودها: أهي موجّهة إلى جذور نظام الملالي لاجتثاثه؟ أهي تسعى إلى إحداث هزّة كبرى، قد تؤدي إلى تحقيق بعض المطالب ثم ينكفئ كل شيء؟ هل تهدف إلى فرض «سياسة النأي» على النظام، للخروج من سوريا، واليمن، ولبنان، والعراق، والكف عن ممارسة إرهابه المغلّف بالمذهبية؟ هل تقتصر على تحديد مطالب تتصل بالديموقراطية، وحرية التعبير في السياسة والإبداع، والفنون؟

 

كل ذلك، يراود إلى حد كبير هؤلاء الشجعان الذين يخوضون معارك سلمية شرسة، لكن على غير برمجة، وعلى غير أولويات، وعلى غير هيئات مركزية، وربما على غير خطط قريبة المدى أو بعيدة.. لكن إذا شئنا؛ يمكن اختزال كل هذه الأهداف بمواجهة الاستبداد، لأنه هو الذي يُنتج كل هذا الخراب. الاستبداد الفردي (الإلهي المقدس المشخصن في المرشد)، والاستبداد الجماعي المنظّم من الفاسدين في السلطة، والنهّابين من الحرس الثوري… أي حُماة النظام. فالنظام الفاسد يحميه الفاسدون، والنظام القاتل يحميه القتَلَة. ومصادرو «الدولة» تحميهم فرق الخوارج على الدولة نفسها، كالملالي، والحرس الثوري…

 

دولة إيرانية

 

والسؤال: هل بقي ما يمكن أن نسمّيه دولة إيرانية ذات دستور، وقوانين، وضوابط، وقضاء، وحُكم جماعي يقوم على «الشورى»، هل بقي ما يمكن أن نسمّيه اقتصاداً واضح المعالم، وميزانيات تخضع للرقابة؟ كل شيء بات يحتاج إما إلى تغيير شامل، أو جزئي أو ترميم أو ترقيع. حتى ترقيع النظام ممنوع. حتى ستر عوراته ممنوع.

 

من هنا، إن الحركة الاحتجاجية المستقلّة عن كل الانتماءات التنظيمية السائدة، ستواجه شراسة وحشية باتت تعرفها، منذ قيام الثورة الإيرانية مع الخميني وخليفته خامنئي. وقد بدأت بوادر هذه البربريّة متمثلة بأعداد القتلى والضحايا والجرحى على أيدي آلة النظام الجهنمية، من دون إغفال حركة الاعتقالات العشوائية التي تُحسب بالمئات حتى الآن: السجن، القبر، أو المستشفى: كأنها الأماكن التي تنتظر كل من يتظاهر ويحتجّ حتى بالطرق السلمية.

 

نهاية الفتنة

 

لكن اللافت أنّ الحرس الثوري الذي كُلّف قمع الحركة أعلن قبل يومين «انتهاء الفتنة»، وكأنّ شيئاً لم يكن. إنها الفتنة. لكن ما توصيفاتها، بالنسبة إلى النظام: الاتّهامات جاهزة: التدخل الخارجي، «أعداء إيران»، “عملاء إيران” ثمّ وبدون خجل إنّ هؤلاء المحتجّين يتظاهرون «ضد الله» وعقابهم الإعدام! إذاً، من الخيانة تنفيذ إرادة «الأعداء»، والتكفير، لأنّهم يمانعون «الله». هنا نتذكّر ثنائية الخميني، عندما اتّهم حلفاءه الذين تعاون معهم لإسقاط نظام الشاه، بالكفر، وبالخيانة، وقتل وشرّد عشرات الألوف منهم (مجاهدي خلق، وحزب «توده الشيوعي»).

 

فالاتهامات «الثابتة» تشبه ثبات النظام على استبداده وذرائعه، وأسلحته الإعلامية. ونظن أن تدخل ترامب بدعمه المتظاهرين، خدم السلطة، أكثر مما خدم هؤلاء. وكذلك بعض الأصوات الغربية التي حثّتهم على إسقاط النظام. فمثل هذه التصريحات الغبيّة، يستغلّها الملالي، وأذرعتهم القمعيّة، والقضائيّة، كالحرس الثوري (وصولاً إلى الحشد الشعبي العراقي)، للإمعان في سياسة الاستشراس.

 

لكن، تعامل المسؤولين الإيرانيين، مع هذه الحركة ووصفها بـ«الفتنة»، أو «الخائنة»، أو «التكفيرية»، يعني أن لا شيء تغيّر فيه، لا ذهنيّته، ولا رغبته في إصلاح أي شيء. فما ينتجه النظام من فساد، وبطش، ونهب، واعتداء على دول الجوار، هو «مقدّس»، ولا رجوع عنه. أي أنّ هذه المعارضة «المرتجلة» تتحمّل مسؤولية أخطائها.

 

وإذا عرفنا أنّ الرئيس خاتمي المعتدل (والمفروضة عليه الإقامة الجبرية ومنعه من الإدلاء بأي اتصال أو بتصريح تخلّى عن هؤلاء الشجعان، ووصفهم بالخارجين على القانون). وهذا يعني أنّ الإصلاحيين (أصحاب ثورة 2009)، انضموا إلى النظام، لأنّه كما صرّح بعضهم، خرجوا على ثوابت المعارضة وأهمها «نظام خامنئي – الحرس الثوري». كأنما يدينون أنفسهم، أو يتلون فعل الندامة، عمّا أقدموا عليه من تعبير عن احتجاجهم على تزوير الانتخابات، وقمع عشرات الألوف من الموالين لهم وسقوط عشرات الضحايا والقتلى.

 

وخاتمي!

 

ونظنّ أنّ موقف بعض الإصلاحيين «الروّاد» كخاتمي، يأتي بعدما اكتشف هؤلاء أنّ الحركة الاحتجاجية مستقلّة أوّلاً عنهم، ثانياً عن رعايتهم، وثالثاً عن أساليبهم، ورابعاً المساواة بين الإصلاحيين والنظام: عملة واحدة. عملة النظام. عملة الصراع حول السلطة، وليس حول مبادئ الحرية، والديموقراطية. وهذا صحيح، لأن المحتجّين لم يرفعوا لا صور «مير حسين موسوي»، ولم يهتفوا باسمه. فبعد آمال عريضة علّقها الناس على هؤلاء الإصلاحيين اكتشفوا أنها تبدّدت أو سحقت. ولهذا باتوا غير متفائلين بهم».

 

فالمحتجّون إذاً وحدهم. النظام والإصلاحيون اجتمعوا ضدّهم. ورهاناتهم علقت بهم. ونقصد أن جماهير الإصلاحيين لم تعد جماهيرهم، وانفرقعت عنهم. وها هو زمن التحرك بانفراد بقوة إرادتهم وإيمانهم. هنا نقطتا القوة والضعف. وكأنما سقطت مقولة المواجهة، يقول الفيلسوف «لابويسي» (1530 – 1563)، إن السلطة سواء كانت امبراطورية، نخبوية، ديموقراطية تحمل إشكالية كل سلطة، أي أنها إشكالية السلطة. وها هم الإصلاحيون ومَن يدّعون ذلك كالرئيس روحاني، ينضمون إلى قافلة السلطة. ولا همّ إذا كان سلطة الرئيس، الملك، الشعب الغائب،لأنها مسألة السلطة. وإن قرار الخضوع لاستبداد حاكم، من خلال حفنة من مساعديه، أو من خلال قسم من السكان يتكلم باسم الشعب كله، يعني الخضوع للاستبداد.

 

الخوف

 

ونظنّ أنّ المحتجين طرحوا سؤال الفيلسوف لابويسي «لماذا يخاف كثير من الناس طاغية ما، لا يستمدّ سلطته إلاّ منهم؟». كيف يمكن فهم مواقف أكثرية طاغية من سلطة رجل واحد؟ إنها مسألة غريبة تؤدي إلى نوع من الكيمياء الغامضة. الناس الخاضعون يشكون مَن «يُخضعهم»، من دون أن تراودهم أبداً فكرة أنّهم يكفي أن يرفضوا هذا الطغيان ليسقط من تلقائه.

 

فلا شيء يجدي في مواجهة الطاغية سوى الكف عن منحه خضوعهم. الناس هي التي تمنح خضوعها للطاغية. والسؤال الأهم: أترى لا يحب الناس الحرّية، لأنهم لو أحبّوها فسيحصلون عليها؟. فالإنسان وُلد حرّاً (قالها لابويسي والعديد من الفلاسفة)، أي أنّ «الحرّية لأنها جزء من طبيعته، فهي الأثمن». ذلك أنّه، في الأصل، وفي افتراض أنّ الحرية حالة طبيعية للناس، فيعني أنهم مفطورون عليها. فالعبودية، مسألة «ثقافية»، واكتساب. ربما مسألة فلسفية. أو سياسية. أو تراكم تاريخي.. لكن الحرّية هي كالحواس مسألة طبيعية، ومن شروط الإنسان الحيوية. إذ كيف يولد الناس أحراراً ويصبحون عبيداً؟ كيف ومتى؟ السلطة، تركيبياً، بسيطة: «أولاً القوة الفيزيائية هي التي تصنع القانون: الأقوى يستعبد الأضعف. هذه الحقيقة لا تسأل: فقوة الإخضاع الأول تصبح العادة التي تعمل كطبيعة ثانية». كنا أحراراً، ولم نعد كذلك. ثمّ نسينا أن نكون أحراراً. وينتهي الأمر بنا إلى استحالة تصوّر أنّنا يمكن الرجوع إليها. ويستحيل إلغاؤها..!

 

المحور

 

إن هذه الأفكار حول خضوع الشعوب للطغاة هي المحور الأساسي الذي دارت حوله فكرة الثورات منذ البداية حتى اليوم: من الربيع العربي، إلى الانتفاضتين الإيرانيتين. ويبدو أن الإصلاحيين انضموا إلى عاداتهم الجديدة: تناسوا أنّهم كانوا أحراراً، وها هم قابلون بأن يكونوا عبيداً.

 

لكن إلى أيّ مدى ستنتصر فكرة الحرّية، في إيران اليوم بعد تلك الأيام العاصفة من المناداة بسقوط الطاغية والمجرم. والفاسد، والدكتاتورية الدينية؟

 

هؤلاء الشجعان، قرروا أن «ينفصلوا»عن كل ما كان «سلطة»، وكل ما هو سلطة جاهزة وحدهم. لكن أو لا تكون محاولة انتحارية؟ ألا يمكن أن تؤدي إلى «إجهاض» كل احتمال بالثورة في المستقبل؟ ألا يمكن أن يزرع في هؤلاء وفي سواهم بذور اليأس؟ أتكون هذه الانتفاضة هي الأخيرة، إذا نجح مجرمو الحروب في إيران في القضاء عليها؟

 

الانتظار

 

فلنعتبر أنّ في كل تشاؤم، (أو خطأ تكتيكي) جانباً من التفاؤل. فهؤلاء «المتمردون» أرّخوا للمرة الأولى أنّهم قادرون على التحرك، من دون خلفيات ماضوية أو حزبية، أو أهل سلطة سابقين أو حاليين.

 

بمعنى آخر، إنهم، انفجروا في الشوارع. بطبائعهم «الخام»، بنوازعهم الأولية، بغرائزهم الإنسانية، بحقوقهم بالحرية، وهذا لن يكون سوى بشائر ما، لشجاعة زُرعت في التواريخ؛ ذلك أنّ الشجاعة الحقيقية تعني أنّه يجب الإيمان بأنّ الضوء يلمع في آخر النفق.

 

هذه هي «الروح» الاستمرارية التي تنتصر بها «الشعوب» اليائسة، وكأنّ لسان حالهم يقول «الفكرة هي شجاعة اليأس»!

 

فلننتظر إذاً. ويكفي أن نتمسك بالانتظار… لأننا محكومون به!

 

وإعلان الجعفري قائد الحرس الثوري نهاية الفتنة، يعني بكل بساطة أنّها لم تنتهِ، وأنّ أهل الفتنة في النظام ضُربوا في صميمهم: إنها أول حركة راديكالية ضدّ النظام برمّته!

 

وهذا يعني، أنّ هذا النظام الحديد «أوهى من خيوط العنكبوت».. والدليل اللجوء إلى السلاح والقتل والسجون.. للدفاع عن وجوده.

 

إنها المرة الأولى التي يدافع فيها نظام الجمهورية الإسلامية منذ الخميني (وجرائمه)، عن جذوره!

 

وإذا اعتبرنا أنّها الحركة الاحتجاجية الثانية بعد الأولى عام 2009.. ويعني أنّ علينا انتظار الثالثة والرابعة.. لإسقاط هذا الهيكل الفارغ المُسمى نظام الملالي.