الحكومة أوشكت على الولادة، والعقَد التي تعترضها تُحلّ الواحدة تلوَ الأخرى، في ظلّ إصرارٍ لدى المعنيين على إنجاز التشكيلة الوزارية قبل عيد الاستقلال الذي يصادف الثلثاء المقبل، إلّا إذا… استعصَت بعض عقَد التوزير والاستيزار…
…ولأنّها حكومة انتخابات يدور التنافس على المشاركة فيها، فيما يُنقَل عن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أنّه لا يَعتبرها الحكومة الأولى لعهده ، وأنّ الأولى ستكون تلك التي سؤلّف بعد إنجاز الانتخابات النيابية في الربيع المقبل.
كلّ القوى السياسية تريد أن تكون لها حصة في الحكومة الجاري تأليفها، ليكون لها بالتالي استفادة من موقعها، أو مواقعها الوزارية تتيح لها تعزيزَ أرصدتها الانتخابية التي تمكّنها من الفوز بمقاعد نيابية تؤهّلها للبقاء في «جنّة» السلطة عبر نَيل حصصٍ وزارية وأدوار سياسية في الحكومة الآتية بعد إنجاز الاستحقاق النيابي.
ويستدلّ من هذا أنّ القوى السياسية ما كانت لتَحظى برصيد شعبي انتخابي لولا توصُّلها للخدمات التي توفّرها لمؤيديها من خلال الإدارات والوزارات التي يتولّاها ممثّلون عنها، وبالتالي فإنّ الحكومة العتيدة لا يمكن أن تكون «حكومة انتقالية»، كما يسمّيها البعض، بل ستعكس نهجَ العهد الجديد في إدارة شؤون الدولة، أو على الأقلّ النموذج الأوّل لهذا النهج، ولن تكون في رأي كثيرين «فترة سماح» تسبق فترةَ البدء بـ«التغيير والإصلاح» المنشودَين.
وأكثر من ذلك، فإنّ الحكومة العتيدة تكتسب أهمّية كبرى نسبةً إلى القضايا الكبرى التي ستتصدّى لها، وفي مقدّمها قانون الانتخاب الجديد الذي يعوّل عليه أن ينتج طبقةً سياسية جديدة ستتسلّم مقدّرات البلاد والعباد لأربع سنوات، ناهيك عن أنّ ماهيّة القانون ستحدّد مستقبل الحياة السياسية في البلاد وإمكانية الدخول في إصلاح سياسي من خلال تمثيل شامل لجميع الأطياف في ورشة تطوير الدولة بكلّ مؤسّساتها التي ما يزال بعضها يَعمل بموجب قوانين عثمانية وفرنسية أكلَ الدهر عليها وشرب.
ولذلك يؤكّد سياسيون أنّ أوّل امتحان للعهد وحكومته سيكون في مدى القدرة على إنجاز قانون تغيير واقع البلاد ونظامها نحو الأفضل، أي قانون الانتخاب، الذي وعَد رئيس الجمهورية في خطاب القسَم بإنجازه قبل الانتخابات النيابية المقبلة، لأنّ أيّ فشَل في هذا المضمار سيكون نكسةً كبيرة للعهد وللحكومة معاً، وحتى يتمّ تحقيق هذا التغيير لا بدّ مِن أن يكون قانون الانتخاب معتمداً على النظام النسبي أياً كان حجم الدوائر الانتخابية، حتى لا يُقصى أيّ فريق عن التمثيل في الندوة النيابية، وتالياً عن المشاركة في القرار الوطني.
وأكثر من ذلك، إنّ تغييراً سياسياً يحقّقه قانون انتخابي من هذا النوع، من شأنه أن يؤسس لتنفيذ الدستور الذي انبثقَ من وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ»اتفاق الطائف».
فعدالة تمثيل اللبنانيين في مجلس النواب تفتح الباب أمام الشروع في إلغاء الطائفية السياسية وفق الآليّة المنصوص عنها في المادة 95 من الدستور، وعندما تتحقّق العدالة تزول الطائفية، بحيث يصبح المواطنون سواسيةً في الحقوق والواجبات، ولا يعود الانتماء الطائفي يهمّهم إلّا من الجانب الديني البحت فقط، بحيث يصبح اللبنانيون مواطنين في وطن وليس مواطنين في طوائف، وتسقط «ثقافة التعداد» وينتهي الكلام عن أقلّيات وأكثريات في وطن صغير الجميعُ فيه أقليات بالمعنى العددي وأكثريات بمعنى الفعل والدور وبمعنى الرسالة الحضارية التي يؤدّيها على مستوى حوار الثقافات والديانات الذي يُصدّره يومياً إلى العالم، إذ إنّه لو لم يكن بهذه الميزة ـ المنعة لكان تَقسّم وتمزّقَ طائفياً ومذهبياً، خصوصاً في ظلّ الجحيم الذي تعيشه المنطقة والذي تُباد فيه إثنيات وعرقيات.
ويقول هؤلاء السياسيون إنّ نجاح العهد وحكومته الجديدة والحكومات التي ستليها يَكمن في تطوير صيغة العيش الواحد اللبنانية العربية الحضارية من خلال تطوير النظام وعصرنتِه ليكون لبنان مثالاً يُحتذى في إعادة بناء أنظمة المنطقة الغارقة راهناً في حروب ونزاعات طائفية ومذهبية وإثنية وعرقية تمَّحي معها حضارات وتنسحق شعوبٌ أرادت لها الديانات السماوية أن تعيش متحابّةً ومتعاونة على الخير ونبذِ الحروب.
ويعتقد السياسيون أنّ أوّل لبنةٍ في الإصلاح والتغيير ينبغي أن تكون بإعلان ثورة على الفساد الذي هو علّة العِلل والحائلُ الدائم دون قيام الدولة
العادلة بين مواطنيها، وبتخليصها من الإقطاعات التي تتقاسم موارد الدولة اسلاباً ومغانم، خصوصاً أنّ هناك اقتناعاً على نطاق واسع أنّ الفساد كان سبباً من أسباب ما أصابَ لبنان ودولَ المنطقة من أزمات وحروب، بل إنّ القوى الخارجية أخذت من هذا الفساد ذريعةً لتفجير براكين الغضب الشعبي هنا وهناك لتحقيق أهدافها ومآربها السياسية والاقتصادية والمالية بذريعة «مساعدة الشعوب على نشرِ الديموقراطية»، وكانت النتيجة تدمير هذه الدول بشراً وحجراً.
ومِن مسؤولية العهد وحكوماته، حسب السياسيين إياهم، أن يعاود تنفيذ ما نُفّذ من»اتفاق الطائف» بأمانة، وتنفيذ ما لم ينفَّذ بعد، حتى يكون كما أُريدَ له أن يكون، المدخل إلى إصلاح حقيقي تدريجي تصاعدي في البلاد من دون عودة إلى الوراء، مثلما كانت أكثر من 60 سنة إلى الوراء عبر اعتماد قانون الستّين في انتخابات 2009 وما زال حياً يرزَق، وستكون الطامّة الكبرى إن تمّ اعتماده في انتخابات 2017 لأنّه ما يزال يدغدغ أحلامَ بعض كبار القوم وصغارهم.