لا جديد في لقاء اللجنة الخماسية الذي عقد أخيراً في عوكر. هو لقاء روتيني لا بد منه لـ»تزييت» الماكينة السياسية، فلا يصيبها الصدأ حتى النهاية غير المحددة لحرب غزة. ولكن في الانتظار، كل واحد من أركان اللجنة يخبئ أفكاره الحقيقية عن الأنظار، لئلا تحترق.
يعتقد كثيرون أنّ أركان الخماسية منسجمون في النظرة إلى أزمات لبنان، بمقدارٍ يكفي لرعاية تسوية معينة متكاملة، تبدأ بالجنوب وتمتد لتشمل تفاصيل الأزمة السياسية الداخلية، وفي مقدمها انتخابات رئاسة الجمهورية. ويعتقدون أيضاً أن تعذر التوصّل إلى تسوية حتى الآن مردّه ربط الجنوب بغزة.
وفي الواقع، أركان الخماسية كانوا قد تفاوضوا طويلاً حول الملف اللبناني، وعملوا على تذليل التباينات الحادة في ما بينهم، ما سمح لهم باستعادة حراكهم بعد فترة طويلة من الجمود. لكنهم لم يتوصلوا إلى توحيد الأفكار في الملف اللبناني، بسبب التباين حول حرب غزة ونفوذ إيران الإقليمي. وهناك خلافات واسعة بين هؤلاء حول طبيعة الدور الذي يمكن أن يتولّاه «حزب الله» في التسوية ومستقبل وضع الجنوب والداخل اللبناني. كما أن هناك تباينات بين أركان اللجنة حول الموقف من سوريا والرئيس بشار الأسد ومستقبل دوره في الإقليم.
في أي حال، إن ربط الجنوب بغزة يعني أن التسويات في لبنان مؤجلة إلى مواعيد غير معروفة. وأما النظرية القائلة بأن تتولى اللجنة الخماسية اليوم إعداد تسوية متكاملة ووضعها في الثلاجة، لتكون جاهزة عند انتهاء الحرب في غزة، فهي نظرية لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع.
فالتسويات لا تولد سوى انعكاس للتوازنات والظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية في لحظة معينة، أي إنها تكون على الدوام راجحة لمصلحة الأقوياء. وما من أحد يوافق على تسوية مبكرة يكون فيها ضعيفاً، إذا كان يتوقع أن يصبح الأقوى بعد فترة. وفي المقابل، هناك مصلحة للذين يخشون تراجع نفوذهم لاحقاً أن يُسارعوا إلى إبرام الاتفاق اليوم، أو أن يجهزوه بالكامل على الأقل، ليتم إعلانه في اللحظة المناسبة. لكن هذا الرهان ليس في محله، لأن الأقوياء في لحظة الإعلان عن تسوية يستطيعون نقض التفاهمات السابقة وفرض خيارات جديدة تناسبهم.
لذلك، يتلهّى اللبنانيون بتحليل ما يرشح من لقاءات اللجنة الخماسية، ويتمادون في تفسير «الإشارات» على الطريقة اللبنانية ليخمّنوا مثلاً: من هو المرشح الرئاسي الذي تعمل اللجنة الخماسية لإيصاله إلى بعبدا في اللحظة المناسبة؟
وفي العادة، يهوى اللبنانيون التحليل في مواضيع الانتخابات والتعيينات والحصص السياسية والطائفية، ويتباهى كثيرون في أنهم يعرفون ما يفعله أو يفكر فيه هذا السفير أو ذاك الديبلوماسي. وهذا تحديداً ما يسمّى «حكي الصالونات» الذي لا يمت إلى الحقيقة بصلة، في أغلب الأحيان.
في الواقع، لم يتوافق أركان اللجنة الخماسية على شيء بالنسبة الى ما يتعلق بالملفات اللبنانية الداخلية. وأما ترتيبات التسوية في الجنوب فقد اقتربوا كثيراً من التفاهم عليها، سواء في ما يخصّ ترسيم النقاط الحدودية حتى مزارع شبعا أو بالنسبة الى ما يتعلق بالعمق الذي ينشر فيه «حزب الله» مقاتليه وصواريخه. لكن هذا الاقتراب من التسوية لا قيمة له، ما دام التنفيذ مؤجلاً إلى ما بعد حرب غزة. فتلك اللحظة ستكون لها حساباتها الخاصة التي في ضوئها يتم إفراز التسويات.
حتى ذلك الحين، ما يفعله أركان الخماسية هو الاجتماع دورياً للحفاظ على مرونة الآلية التي يتحركون من خلالها. لكن كلّاً منهم له حساباته الخاصة ويخبئ أوراقاً «مستورة».
الأميركيون يعرفون أن بنيامين نتنياهو لن يوقف الحرب في غزة إلا بعد هزيمة «حماس». لكن قطر تراهن على إبرام صفقة سياسية في غزة والملف الفلسطيني عموماً يعوّض الحركة سياسياً ما خسرته عسكرياً. وبالتأكيد هي تفضّل استمرار تقديم الدعم من جنوب لبنان لـ«حماس» في غزة، ولو بشكل محدود، فلا تستفردها إسرائيل. في المقابل، يريد الأميركيون إبقاء وضع الجنوب مضبوطاً بحركة المفاوضات السياسية، ويفضلون تطبيق القرار 1701. وفي تقديرهم أن تراجع نفوذ «حماس» في غزة سيؤدي إلى إضعاف «حزب الله» نسبياً، فتأتي التسوية في لبنان أكثر توازناً.
وفي الحقيقة، هذا ما يريده الفرنسيون أيضاً، على رغم بعض التمايزات في المصالح السياسية والاقتصادية بينهم وبين واشنطن. وبالتأكيد، من مصلحة السعوديين والمصريين أيضاً أن يتراجع نفوذ «حماس».
هذه الرهانات على مستقبل الحرب في غزة، من زوايا مختلفة، تعني أن اللجنة الخماسية ليست في وارد إنتاج أي تسوية لبنانية حتى إشعار آخر، سواء في الجنوب حيث «حزب الله» يصرّ على «المشاغلة»، أو في الداخل حيث يراهن كل طرف على خلق توازنات جديدة للقوى تفرض سلطة جديدة، بدءاً برئيس للجمهورية. ولكن، في انتظار أن تفرج غزة عن الحل اللبناني، سيمضي لبنان في اهترائه إلى قعر لا يمكن تقدير عمقه.