بانتهاء أيلول، تنقضي المهلة التي منحتها اللجنة الخماسية للموفد الفرنسي جان إيف لودريان كي يبتكر تسوية سياسية في لبنان. وغادر الرجل بمرارة الفشل في تحديد موعد لأيّ من أشكال الحوار، لا بالطريقة الفرنسية ولا بطريقة الرئيس نبيه بري ولا بالمزاوجة بين الطريقتين.
التطوّر المستجد هو أنّ قطر قررت الانخراط بقوة في حركة الوساطات، إلى جانب فرنسا أو خلفاً لها، فيما تقف المملكة العربية السعودية عند مسافة متوازنة بين باريس والدوحة. فالسعوديون لا يعنيهم كثيراً مَن يقوم بالوساطة، بل ما النتيجة التي سيتم التوصل إليها، أي انتخاب رئيس للجمهورية يراعي المواصفات التي تريدها المملكة وتشكيل حكومة لا يتغلب فيها فريق على آخر.
في السابق، أيّد السعوديون مبادرة فرنسا لبعض الوقت. أقنعهم الفرنسيون بأن معادلة: سليمان فرنجية – نواف سلام مناسبة، وكفيلة بتحقيق مستوى كافٍ من التوازن السياسي في البلد. فصحيح أنها توصل حليف دمشق وطهران إلى موقع الرئاسة، لكن رئاسة الحكومة تكون في موقع سياسي آخر، وتكون الحكومة متوازنة ويراقبها مجلس نيابي متوازن.
في رأي باريس أن هذه المعادلة كفيلة بمنع انجراف السلطة في الاتجاه الذي تريده طهران. وقد اقتنع السعوديون بهذه الرؤية في لحظات معينة، ثم تراجعوا بعدما تلقوا تحذيرات حلفائهم اللبنانيين الذين اعتبروا أن تسوية من هذا النوع ستكون راجحة لمصلحة محور دمشق- طهران على أرض الواقع، لأن هذا المحور يمتلك القوة الراجحة ميدانياً.
في كل هذه المعمعة، ما يهم الفرنسيين هو أن يحافظوا على خصوصية ارتباطهم بلبنان. وهو ما يستدعي منهم أن يفتحوا قنوات بينهم وبين طهران أيضاً. ولا بأس في أن يأتي السعوديون أو القطريون أو سواهم ليكونوا شركاء في صناعة التسوية.
ولذلك، يقول مطلعون إن باريس لا يستثيرها اليوم حراك قطر المستجد على الساحة اللبنانية، وهي لا تعترض على أي اسم يطرحه الوسيط القطري لموقع الرئاسة. حتى إن باريس مستعدة لاحتضان الصيغة النهائية للتسوية، وهي لا تخشى أي صيغة يتم التوصل إليها، ما دامت ستحظى بدعم شامل، محلياً وإقليمياً ودولياً.
وميزة قطر هي أنها أيضاً تتمتع بعلاقة جيدة مع إيران، وتحظى بثقتها. وفي الموازاة، هي موضع ثقة المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة. ولذلك، هي تستطيع رعاية التسوية في لبنان.
لكن الأهم هو أنّ قطر تتمتع أيضاً بعلاقات سياسية واقتصادية متينة مع فرنسا، وهي في لبنان شريكتها في كونسورتيوم استخراج الغاز. وهو ما يدفع الطرفين إلى ممارسة أقصى الجهود لإنتاج تسوية سياسية توفّر الغطاء المناسب لعملية الاستخراج المقدّر ثمنها بعشرات المليارات من الدولارات.
ومن هذا المنظار، وخلافاً لما يثار عن تباين أو تنافس، فإنّ هناك تنسيقاً وتكاملاً بين المهمتين الفرنسية والقطرية. وفي الحالين، لا اعتراض من جانب المملكة العربية السعودية، وإنما حرص على أن تأتي التسوية متوازنة.
عملياً، يدخل القطريون على الخط لدعم المبادرة الفرنسية لا لإفشالها. ويقول بعض العارفين إن استعجال اللجنة الخماسية، بعد اجتماعها في الدوحة، إنتاج تسوية سياسية في لبنان، يرتبط بعملية الحفر الجارية حالياً في البلوك 9.
فمن ناحية سياسية، يفترض أن تكون هناك سلطة مرجعية تحظى بثقة المجتمع الدولي تتولى زمام عملية استخراج الغاز وإدارة عشرات المليارات المنتظر أن تتدفق على لبنان نتيجة لذلك.
وسيكون مطلوباً تأمين التسوية السياسية، تماماً كما هو مطلوب ضمان أمن الغاز الذي سيتم استخراجه وتخزينه ونقله. وما يجري اليوم في عين الحلوة ربما يكون في خدمة هذا الهدف، وكذلك، التجديد المثير للجدل لـ«اليونيفيل».
وثمة اقتناع يتنامى بأن لحظة التسوية السياسية في لبنان لم تأت بعد، لأن الطرفين الأساسيين أي الولايات المتحدة وإيران ليسا مستعجلين، ما دام هناك متسع من الوقت للدخول في ورشة الغاز. وإذا كان الأميركيون معنيين بأمن الطاقة في شرق المتوسط، فهذا الهدف تحقق باتفاق الترسيم مع إسرائيل قبل عام. وأما ورشة استفادة لبنان من موارده الغازية فلها شروط وضوابط أخرى.
لذلك، على الأرجح، انتقال الوساطات في لبنان، من فرنسا والسعودية ومصر إلى قطر، ليس في الواقع سوى عملية ملء للوقت ريثما تنضج التسوية التي ستحظى برعاية أميركية وإيرانية.
وحتى ذلك الحين، لن يسمح الأميركيون بفك الحصار المضروب على لبنان مجاناً، لأن السلطة الحالية الحليفة لطهران، عندما تحصل على عشرات المليارات، ستصبح قادرة على التحرك بهامش كبير من القوة. وعملياً، ستكون هذه الأموال الطائلة بتصرف الحليف الإقليمي أيضاً.
لذلك، كل ما يجري اليوم من مساعٍ ووساطات سياسية في لبنان، بهدف انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة فاعلة، ليس سوى ملء للوقت، انتظاراً للحظة التي يفرج فيها الأميركيون والإيرانيون عن التسوية. وفي عبارة أخرى، عن اللحظة التي سيتم فيها «اكتشاف» رئيس الجمهورية وانتشاله من أعماق بئر الغاز.
وسيكون السؤال: هل سيتم ضبط ساعة التسوية السياسية على ساعة إعلان نتائج عملية الحفر الجارية اليوم، والمقدّر ظهورها في تشرين الثاني المقبل، أم ستكون هناك مفاجآت منتظرة، في البحر كما في البر، وفي بلوكات الغاز كما على طاولات التفاوض؟