تدور نقاشات بين دول اللقاء الخماسي حول آفاق الطروحات الفرنسية. ترجمة هذه النقاشات تنعكس لبنانياً تصاعداً في قلق معارضين من احتمال انتخاب سليمان فرنجية، ورهان مكوّنات معارضة على انكفاء فرنسي وتقدم أميركي وسعودي
ما استجدّ في الأيام الأخيرة من حركة دبلوماسية لممثّلي دول اللقاء الخماسي، وإيران، يعكس محاولة جديدة لوضع الرؤى المتناقضة، المستمرة منذ ما قبل اجتماع باريس، على خط النقاشات اللبنانية. فيما تعاطت القوى السياسية مع مواقف باريس والدوحة وواشنطن والرياض وطهران من زاوية مصالح متناقضة.
المخاوف التي حملتها الأيام الأخيرة لبعض قوى المعارضة من مؤشرات عن حتمية انتخاب رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، مع الحضور الإيراني في بيروت ودمشق والانكفاء السعودي تحت ضغط التسوية مع طهران، تقابلها مشاعر مناقضة تماماً لقوى حزبية معارضة تبدو واثقة من أن انتخاب سليمان فرنجية رئيساً من سابع المستحيلات، وتستبعد نهائياً فرضية قبول رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، تحت ضغط موقعه داخل الشارع المسيحي، بانتخاب رئيس المردة. ويتعامل هؤلاء مع مبادرة التسوية الفرنسية على أنها صارت من الماضي. وما يدور بين الخارجية الفرنسية والإليزيه يساهم في ترسيخ قناعتها بأن باريس باتت قاب قوسين من نعي مبادرتها، بعد ارتفاع الضغط اللبناني – المسيحي، مع بكركي، ضد إدارة الإليزيه لملف لبنان.
لكن الواقعية تحتّم القول إن دولاً كفرنسا لا تعلن فشلها على الطريقة اللبنانية، ولا تتراجع بسهولة في ظل تأثيرات قوى لبنانية مهما كان مستوى اعتراضها. بل إنّ أيّ تراجع، ولا سيما تحت وطأة الاعتراضات الشعبية الداخلية ضد إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون، يحتّم عليها درس خطواتها برويّة أكثر. وإذا ما قررت إعادة درس اقتراحاتها، فإنّ ذلك يتمّ بتسلسل حين تصبح مصالحها مع الرياض والدوحة وواشنطن على المحكّ. وهذا يفترض، في المقابل، خريطة طريق أخرى من هذه الدول لحل أزمة الرئاسة، معطوفة بالحد الأدنى على وحدة من يعترضون لبنانياً على تسوية فرنجية، لتقديم بديل مقنع، وهو ما لم يحصل حتى الآن. فلا واشنطن والرياض قدّمتا اقتراحات عملية لرفع مستوى الاهتمام بالانتخابات الرئاسية، ولا رافضو فرنجية تقدّموا بحل بديل. وهذا، على الأقل، تبرير فريق ماكرون الذي بات يتحمّل داخلياً تبعات التعثّر في الملف اللبناني.
وتقول مصادر مطّلعة على نقاشات فرنسية داخلية إن التطورات الأخيرة بين الدول العربية وسوريا أثارت قلقاً أوروبياً وفرنسياً، من شأنه أن ينعكس على الرؤية الفرنسية – الأوروبية وضغطاً للرأي العام على قرار الإدارة الفرنسية. إذ إن انطلاقة التسوية قبل أشهر تختلف عن خوض معركتها في ظلّ التبدّلات الإقليمية، إضافة الى أن الضمانات التي تقول باريس إنها مطلوبة من فرنجية، يفترض أن تكون مطلوبة من السعودية وواشنطن بأنهما لن تكرّرا ما جرى مع انتخاب الرئيس ميشال عون، وتتكرّر تجربة التعثّر في معالجة الملفات المالية والاقتصادية والسياسية نتيجة الأزمة الداخلية التي ستنتج من انتخاب طرف يمثّل فريقاً سياسياً ضدّ فريق آخر. وبما أن باريس لم تحصل على هذه الضمانات، فإنّ التسوية، حتى ولو مرّت عبر البرلمان اللبناني، توازي فشل المبادرة برمّتها، ما يشكل لباريس قلقاً إضافياً، ولا سيّما أن التسوية أصبحت محور نقاشات الدول الخمس التي تتقدّم خطوات في مرحلة جسّ النبض حول مواصفات أكثر قابلية للترجمة العملية.
اما لجهة الرياض، فإنّ المعارضة تملك ورقة واحدة تعوّل عليها، وهي أن الموقف السعودي لم يتغيّر. وكل ما ينقل عن السفير السعودي وليد البخاري يمثّل، بالنسبة إليها، استكمالاً، لا نقضاً، للموقف السعودي الذي تبلّغته باريس ومعها قوى المعارضة بأنّ الرياض غير معنيّة بكل ما يطرح من تسويات، وما ينتج لبنانياً فليكن ثمنه من جيب اللبنانيين الذين أنتجوا التسوية. أما تفسيرات الكلام السعودي في بيروت فتأخذ وجوهاً أخرى. إذ كيف يمكن للسعودية أن تخوض حرب مواجهة ضدّ أيّ طرف في ظلّ عدم خوض إيران حرباً لمصلحة الطرف الذي يرشّحه الثنائي الشيعي. ففي مرحلة التواصل السعودي – الإيراني، لن تذهب الرياض الى خوض مواجهة مع طهران، التي لا تخوض المعركة الرئاسية باسم واضح وعلني، بل تتركها ضمن الإطار اللبناني عبر حلفائها. وفي الانتظار، لا يمكن وضع الرياض في خانة الانقلاب على مواقفها منذ أشهر. وما تبلّغته المعارضة لا ينسجم مع حجم التفسيرات التي تعطى للموقف السعودي.
تعويل المعارضة على تغيّر فرنسي تدريجي، وثبات سعودي، وضغط أميركي في تصاعد لافت تجاه احتمال انتخاب فرنجية، يقابله ضغط داعمي مرشّح الثنائي في اتجاهات خارجية ومحلية. ما كان يعوّل عليه في التحرك الخارجي فرنسياً لا يزال متقدماً، لأنّ ثمّة رهاناً على أنّ حركة المعترضين فرنسياً لن تصل الى الموقع المطلوب، بل إن الحياد السعودي قد يعطي مؤيّدي التسوية دفعاً للضغط أكثر من أجل إنجازها، وليس من السهولة تسليم إدارة ماكرون بأوراقها، في ظل تقاطع مصالح أمنية واقتصادية في لبنان. أما محلياً، فالرهان على تحقيق عدد الأصوات أخذ في الساعات الأخيرة تفسيرات تعوّل على أصوات سنّية قريبة من السعودية نتيجة جولة البخاري، إضافة الى استمرار الضغط على الحزب التقدمي الاشتراكي لتبديل موقفه. لكنّ الرهان الأهم يبقى في الموقع المسيحي لدى التيار الوطني الحر. التلويح بورقة باسيل يأخذ حيّزاً أكبر في قلب المعادلة الداخلية، لمصلحة فرنجية. حتى الآن يقف باسيل معانداً، لكنّ الثنائي يراهن على تبدّل موقفه، والمعارضة متوجّسة منه. وعلى هذا الموقف، قد يبنى الكثير من الآن وصاعداً، إذا ما تمكّن فريق التسوية من إقناعه بأنّ عهد عون سيتكرّر لجهة تأمين مصالح التيار واستمراريّته وحضوره.