شبيه هو مشهد القوى التغييرية اليوم مع ذلك الذي تمخّض عنه مشهد ما بعد سنين الحرب الأهلية وبدء مرحلة السلم الأهلي وقيام ما كان يؤمل أن يعرف بالدولة العادلة تحت عنوان الجمهورية الثانية.
مع انتهاء النزاع الأهلي عسكرياً، أفرزت الحرب التي قامت في جانب بالغ الأهمية منها بسبب الظلم السياسي والإجتماعي، حكم القوى التي خرجت منتصرة في النزاع والتي استثمر بعضها الدم المُسال لتناتش مقدرات دولة كانت في أمسّ الحاجة الى الموارد لبناء مجتمع مدمر ونازف مادياً وبشرياً.
إتخذ ذلك طابعا طائفياً ومذهبياً صارخاً وجاء على حساب مهزومي تلك الحرب من طوائف مختلفة وان كان معظمها مسيحياً عاش احباطه طويلا بين المنافي والسجون، في الوقت الذي هُزم فيه في الأساس المشروع المدني والعلماني لقوى كانت في صلب الثورة على النظام الطائفي في العام 1975 والتي انضوت تحت لواء «الحركة الوطنية» من أحزاب وقوى علمانية ويسارية كانت أيضا في صلب اطلاق المقاومة في وجه الاحتلال الإسرائيلي واندحاره.
لكن تلك القوى التي شكلت رموز مشروع التغيير وتورطت في الحرب الأهلية في بدايتها وخاصة خلال ما عرف بـ»حرب السنتين»، عادت وشهدت تراجعا دراماتيكيا كانت إرهاصاته تنذر به منذ أواخر السبعينيات حتى خروج المقاومة الفلسطينية في العام 1982.
شكل ذلك العام بداية العد العكسي وشيئا فشيئا انتزعت القوى الطائفية المبادرة من العلمانيين واليسار خلال حرب كانت سمتها المواجهة الطائفية مع الآخر على الحكم وربما على الوجود، ولم تفسح مجالا لنضال مدني تحديثيّ يقتلع النظام من أساسه، وكان طبيعياً حينها ان يتمخض عن كل تلك الدماء اتفاقا يكرس طائفية النظام ويعزز شرعيا كما حصل مع اتفاق الطائف الذي جاء بإصلاحات لكنه لم يُطبق.
حضرت مرحلة السلم الاهلي المفترض على حساب القوى التغييرية الحقيقية وشرائح واسعة من الشعب خسرت مرتين: في الحرب بشرياً ومادياً، وفي السلم كما يظهر اليوم خسارة للسلطة كما بالأموال والمدّخرات.
والواقع أن مرحلة التسعينيات شهدت محاولات تغييرية منذ سنواتها الأولى، بداية عبر نضال نقابي كان «الإتحاد العمالي العام» رئته، ومعه انضوت قوى في العلن كانت تشكل عماده مثل «الحزب الشيوعي» ومعه اليسار وشخصيات وطنية وقوى مدنية. إضافة الى أحزاب معترضة على بناء غير سويّ للدولة مثل حزب «الكتائب» وقوى مسيحية كـ»القوات اللبنانية» كانت تشعر بالمظلومية. ومع كل هؤلاء حضر، للملاحظة الجديرة بالتوقف عندها، «حزب الله» الذي نزل الى الشارع مراراً مع العمال ضد السلطة، وقوى أخرى مثل «الحزب السوري القومي الإجتماعي – المجلس الأعلى» و»الجماعة الإسلامية» و»حركة الشعب» و»منظمة العمل الشيوعي» وعهم شخصيات وطنية ومدنية ونيابية..
وفي المرحلة الثانية من التسعينيات وصولاً الى أواسط الألفية الجديدة، بدأت كرة ثلج الاعتراض المسيحي تكبر تحت عباءة بكركي، وحضر «التيار الوطني الحر» بقوة، وانطلقت صرخة الاعتراض في الجامعات والشارع واتخذت دلالة في مباريات كرة السلة لا سيما لنادي «الحكمة»، ليصبح بعدها الاعتراض منظماً في الفترة التي تلت مباشرة التحرير في أيار العام 2000.
ومع الانسحاب السوري في العام 2005 واستيعاب الحكم للمعترضين المسيحيين الذين انضووا في السلطة، لم يكن الحال نفسه بالنسبة الى القوى التغييرية العلمانية المتراجعة بقدراتها الشعبية، والمتابعة في معارضتها الجذرية للنظام الذي وجدت نفسها على هامشه.
إنتفاضة النفايات و17 تشرين: عودة الروح
ظلّ الحال كذلك حتى العام 2015 خلال انتفاضة النفايات التي شكلت إرهاصاتها ومجموعاتها نواة انتفاضة 17 تشرين 2019.
حينها، سارعت القوى المدنية واليسارية التي عادت لها الروح الى رفد الساحات، لكنها كانت مبعثرة ومفتقدة للمرجعية، بينما تمكنت قوى سلطوية أخرى انخرطت في «الثورة» كـ»الكتائب» و»القوات» من اجتذاب الاهتمام اعلاميا وكانت، نتيجة قدرتها المادية والإعلامية، متمكِّنة من الشارع لتطغى على الآخرين. وكان نتيجة ذلك أن وُسمت 17 تشرين باتهامات تسطيحية إختُزلت معها، أو هكذا أراد أخصامها، بمشهد قطع الطرقات وتقطيع أوصال المناطق طائفيا واستعادة مشهد تقسيمي لا يزال في مشروع البعض، بينما تراجعت الانتفاضة الحقيقية أدراجها محتفظة بتحركات موضعية مطلبية وقانونية واحتجاجات على السلطة في ملفات كبرى أهمها مأساة المرفأ.
هناك عامل آخر لذلك الطغيان الحزبي على «الثورة»، فقد حاولت القوى التغييرية ايجاد توازن دقيق بين مطلبها «المدني» وشعارها «السيادي». أي بمعنى آخر، رفض النظام السلطوي المبني على الفساد والذي دمّر الدولة والمجتمع، ومعارضة تفلت السلاح ضمن الدولة ومحاولة ابتكار صيغة تحافظ على «خيار المقاومة» من ناحية، وتعترض على استخدامه داخليا وترفض حماية «منظومة» الحكم من ناحية ثانية وأداء أقطابها بما فيهم «حزب الله».
لكن في مقابل ذلك، تمخّض المشهد عن بروز قوى تُذكِّر بشعارات اليمين اللبناني خلال الحرب الأهلية وترفع شعارات تدغدغ الوجدان كـ»حصرية السلاح» وهو فعليا الشعار الوحيد لقوى تتركز في الجانب المسيحي (يذهب البعض الى شعارات فيدرالية وتقسيمية)، لكنه ايضا شعار يحظى بقبول لدى فئات واسعة في الحراك في بيروت والشمال والبقاع وشرع جزء واسع من الحراك في تبنيه.
والحال هذا أنه في ظل مناخ طائفي حتى العظم ووسط دعم مادي كبير وقدرة اعلامية لامتناهية، طغت الشعارات «السيادية» على العناوين «المطلبية»، ممهدة بالتالي، لطغيان مماثل من قوى شكلت جزءا لا يتجزأ من الحكم اللبناني تاريخياً على مشهد «الثورة» على حساب من شكل بذرتها الأولى من مجموعات شبابية مدنية وطلاب متحمسين ويسار يناضل ضد التيار وشخصيات برزت على المسرح منذ ما قبل 17 تشرين وحتى منذ ما قبل انتفاضة النفايات العام 2015.
قوى مدنية في الوسط
واليوم تواجه تلك القوى التغييرية تحدياً لاتخاذ الموقف والتحالفات. فقد بات واضحا ان الجو العام في مشهد الانتفاضة ينحو في اتجاه عقد تحالفات مع قوى في الحكم تُصنف في اطار «المعارضة». وربما كان ذلك لصالح التغيير المنشود، لكنه سيحل على حساب القوى التغييرية الحقيقية التي قد تدفع الثمن نفسه الذي دفعته في الحرب الأهلية.
والحال ان هذه القوى تحاول جاهدة الحفاظ على مدّ تشرين، وتتحرك رموزها في الشارع لعقد التحالفات من دون استبعاد ان تعقد بعضها اتفاقات من تحت الطاولة مع أركان في الحكم. لكن لا يبدو انها ستحقق مبتغاها في الانتخابات أو حتى خرقاً ملحوظاً مع مخاصمتها للسلطة من جهة، ومنافستها للجزء الآخر من الحراك الذي اختار التحالف مع أركان «معارضين» في الحكم من جهة مقابلة.
وبذلك قد تدفع تلك القوى الثمن مرة جديدة كما دفعته غالياً بعد خسارة مشروعها المدني في الحرب، وهنا يكمن التشابه بين مشهدها في أوائل التسعينيات ومشهدها اليوم. وهذا ما تعرفه قوى مدنية أخرى كانت في صلب الانتفاضة، جيدا. وهي لذلك تعلّمت الدرس وتريد ان تحل في الوسط، وذهبت بعج مضض الى تحالفات مع قوى كانت في الحكم مثل «الكتائب»، وستتمكن من إيصال صوتها الى المجلس النيابي، إذ اعتبرتها الطريقة الوحيدة للخرق المامول.
وبينما يذهب اكثر المتفائلين الى الحديث عن نحو 40 نائباً، فإن من المنطق القول إن عددا قد لا يتجاوز اصابع اليدين يمكن له ازعاج السلطة وتشكيل لبِنة التغيير الذي سيتطلب بدورهعقوداً.
ومن المرجح أن يسود هذا الإتجاه في المجموعات وهو الذي يوازي بين الشعارات المدنية والمطلبية وتلك السيادية، مع رجحان كفّة الهم المعيشي والاجتماعي على العناوين الكبرى والخلافية المتعلقة بحياد لبنان والنقاش الذي لا طائل منه في القضية الوطنية وموقع لبنان في صراعات المنطقة.
هذا بينما بات على القوى التغييرية التقليدية وخاصة اليسار ابتداع خطاب سياسي غير رفضي وغير متعالي على المجموعات الأصغر في الانتفاضة في سبيل حفظ ما يمكن حفظه في الساحات والتأسيس للحالة التغييرية المأمولة في مرحلة دقيقة قد تشكل نقطة تحول في لبنان والمنطقة.