بعد صمتٍ ثقيلٍ دام عدّة أيام، ونومٍ سريريٍّ مُلتبس، إستفاق بعض أهل السلطة والـحاشية وبدأوا هجوماً معاكساً على منتقدي مرسوم التجنيس، ليس بتـبــرير ما حصل، ولا بالرجوع عن الـخطأ وتصحيحه، بل بطرح شعار جديد لـم يـخطر على بال اللبنانييـن من قبل «التجنيس الإفرادي مرغوب ويعـزّز الـهوية»!
فالإرباك الذي صبغ الـمرحلة الـماضية، لـم تبدّده تصاريـح الـمسؤوليـن الـمتناقضة وتذاكيهم بـمحاولة حرف الأنظار عن الـموضوع الأساس، ونقل إهتمام اللبنانييـن إلى مكان آخر، تارةً بالكلام عن صلاحيات رئيس الـجمهورية، وطوراً بوصف الذيـن يـهاجـمون الـمرسوم بأعداء للرئيس القوي والعهد القوي وغطاءً لـمحاولة توطيـن مليـون ونصف مليون سوري.
صحيح أنّ الـمرسوم جرى تـجميده، لكنه سيبقى العنوان البارز فـي الـمرحلة الـمقبلة، ما دام لـم تتوضّح الأسباب الـمُقنعة التـي أوجبت تـجنيس هذه الـمجموعة من الناس، ومن ثـمّ إخفاء الأسـماء والتهرّب من نشر الـمرسوم، ثـمّ التهرّب من تـحديد إسم الـمسؤول وإعلان أبوّته.
لا شكّ أنّ ضجيج الـمرسوم الفضيحة قد تراجع قليلاً، فـي إنتظار تقرير الـمديرية العامة للأمن العام، والقرار الذي سيتّخذه رئيس الـجمهورية، إمّا بإلغائه أو بإصدار مرسوم جديد. ولكن، لـم تكن هدأت تردّدات الفضيحة التـي أثارها مرسوم التجنيس، حتـى إشتعلت النيـران على عدّة جبهات وأهـمّها: الـمطالبة بتجنيس أهالـي «القرى السبع»، و»عرب وادي خالد»، والأمّهات اللبنانيات الـمتزوّجات من أجانب. الـمواجهة التـي أطلقها وزير الـخارجية جبـران باسيل بوجه الـمفوّضية العليا لشؤون اللاجئيـن فـي لبنان بـتجميده طلبات الإقامة الـمقدّمة إلى الوزارة، واشتباكه مع رئيس الـحكومة سعد الـحريري نظراً للتداعيات الـتـي يـمكن أن يرتّــبها مثل هكذا قرار مع الـمجتمع الدولـي.
صدور مرسوم بتعيـيـن 32 قنصلاً فـخرياً من دون توقيع وزير الـمال، وجاء هذا الـمرسوم ليذكّرنا بأزمة مرسوم الأقدميّة للضباط التـي اعتبـرها «الثنائي الشيعي» تـجاوزاً لـمكوّن أساسي فـي البلد! وأخيـراً جاء الـهجوم الذي شنّه السيد حسن نصر الله على السعودية ودول الـخليج فـي «اليوم العالـمي للقدس» ليضع علامة إستفهام حول مصيـر النأي بالنفس ومصيـر تشكيل الـحكومة.
قبل أزمة الـمرسوم وما تبعها من أزمات، كانت عِقد وعوائق تشكيل الـحكومة لا تزال على حالـها. فقط العقدتان الشيعيّتان حُلَّتا بتنفيذ رغبات «الثنائي»، وذلك بتثبيت وزارة الـمالية لـحركة «أمل» ووزارة الأشغال لـ «حزب الله»، أمّا العقدة السنّـيـة فكانت تدور حول توزير واحد أو إثنين من أخصام الـحريري، والعقدة الدرزية حول توزير النائب طلال أرسلان، أما العقدة الأصعب فكانت حصة «القوات اللبنانية» التـي تطالب بالشراكة الـحقيقية مع «التيار الوطنـي الـحرّ»، كما هو حال «الثنائي الشيعي»، وتطبيقاً لـما قيل عن بنود سرّية فـي اتّفاق «إعلان النّيات». أمّا العقدة الأساسية غيـر الـمُعلَنة، فقد تكون مسألة التوازن الـمفقود داخل التـركيبة الـحكومية بيـن الفريق الذي يتّبع التقويـم السعودي والفريق الذي يتّبع التقويـم الإيرانـي.
الـمُضحك الـمُبكي أنّ كل الأفرقاء الـموجوديـن على الساحة يستعجلون تشكيل الـحكومة، ولكن، جـميعهم يريدون الـمشاركة فـي التشكيل وفـي فرض شروطهم وحصصهم ونوعيّة الـحقائب التـي تستأهل أحجامهم وأوزانـهم الثقيلة (وفـي بعض الأحيان الـخفيفة)، ثـمّ يتأفّفون ويتذمّرون ويعاتبون الرئيس الـمُكلّف على الـمماطلة وتأخيـر ولادة الـحكومة.
أيـها السادة الكرام، ما يـهمّ الناس العادييـن ليس مصيـر مرسوم التـجنيس، ولا شكل الـحكومة، ولا مواقف الزعماء و»الـمتـزعّميـن»، ولا إذا كانت كتلة «حزب الله» فـي الـمجلس 74 أو 45 نائباً، (يـجب أن نسأل الوزير جبـران باسيل)، فالذي يـهمّهم حقيقةً، لقمة عيشهم، وطبابتـهم، وأمنهم، وأقساط مدارس أولادهم، وخصوصاً عدم تطييـر موسم السياحة والإصطياف بـمناكفات وتـحدّيات وتـهديدات تعرقل تشكيل الـحكومة وتسمّم أجواء البلد.
الـجميع يعتـرف، بـما فيهم «الطبّاخون» الأساسيون أنّ هناك صعوبة كبيـرة فـي أن تُشكَّل الـحكومة فـي وقت قريب، فالعقد والعوائق تزداد يوماً بعد يوم، والكتل الـمُفبـرَكة تنـمو كالفطر فـي الـمُستنقعات، ومعظم الأفرقاء دفنوا رؤوسَهم فـي الرمال متـجاهليـن خطورة ما يـجري على مستوى الـمنطقة والتـحدّيات الأمنية والإقتصادية التـي سيواجهها لبنان على وقع التـهديدات الأميـركية والإسرائيلية تـجاه إيران و»حزب الله».
يقول جون مارشال «الـحكومة الـمثلى هي حكومة القانون والـمؤسسات، لا حكومة الرجال والأشخاص». لذلك، ما زلنا نفضّل حكومة «تكنوقراط» على مستوى التـحدّيات، تضع مصلحة البلد فوق مصالـح الأشخاص والكتل والأحزاب، حكومة متـجانسة ومتضامنة تـهتـمّ بقضايا الناس الإقتصادية والـمعيشية والـحياتية، وتعالـج مشكلات الكهرباء والـمياه والطرقات والإتّصالات والنفايات، وتـحدّ من عـجز الـموازنة وحجم الدين العام، وتـجتثّ الفساد الذي نـخر عظام معظم الـمسؤوليـن وعشّـش فـي جـميع الإدارات والـمؤسسات… هكذا حكومة، قد تُنسينا مرسوم التـجنيس.
نعم، لقد تعبنا من حكم الرجال اللارجال، والسياسيّـيـن الـمسيّسيـن، والفاسدين والـمفسديـن، واشتقنا إلى حكومة القانون والـمؤسسات.