IMLebanon

من يمنع تشكّل الإطار القيادي للحَراك؟

 

  

أين تجرى المفاوضات الحقيقية بالنسبة إلى مستقبل الوضع الحكومي في البلاد؟

 

للأسف، لا يجري ذلك في ساحات لبنان ولا مع الموجودين في الشارع. هذا لا يعني أن من يتفاوض يتجاهل ما يحصل منذ أكثر من شهر. لكن الحقيقة الصعبة أن المفاوضين الأساسيين لا يتصرفون على أن ما يجري في الشارع يُلزمهم بآليات وترشيحات مختلفة، كما يتصرف أهل الحكم مع الملف الحكومي بطريقة مريبة، إذ ينحصر النقاش، اليوم، في هويّة رئيس الحكومة ووزرائها، لا في جدول أعمالها.

وهذا لا يقتصر على القوى اللبنانية المعنية بالملف الحكومي، بل ينسحب على الجهات الخارجية المؤثّرة التي تتصرف بطريقة توحي كأنها تفاوض على الحراك وباسمه في آن، مستفيدين من استمرار ضياع القيادة الموحدة للحراك. مع الإشارة الى أن الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل يتحدثان، من طرف واحد، عن إعداد لائحة مرشحين لتولي حقائب وزارية، من بينهم من يعتبرون ممثلين لشعارات الحراك. ويستند الحريري وباسيل، في هذه الوجهة، الى أن المجموعات الناشطة في الحراك تتجنب الحديث عن تمثيلها في الحكومة. كما أن عدم تبلور آليات تنسيق فعالة يجعل من الصعب على أحد من المشاركين في الحراك النطق باسم الجميع. وهو ما يعيدنا الى المربع نفسه، حيث السؤال المركزي: الى متى سيبقى الحراك هكذا، يقف خلف شعارات عامة، من دون قيادة أو برنامج عمل واضح؟

المهم أنه ليس هناك اليوم جديد يعتدّ به بالنسبة إلى مستقبل التركيبة الحكومية. وما قد يخرج في أي وقت لا يعدو كونه حصيلة المواجهة السياسية القائمة في البلاد. لكن الأكيد أن ما سيتفق عليه الأطراف المتنازعون في السلطة لن يحاكي أبداً طموحات الناس وتطلّعاتهم، فماذا هم فاعلون؟

بحسب كل المعطيات حول التنسيق بين المجموعات المشاركة في الحراك، فإن فكرة قيام إطار تنسيقي لا تزال بعيدة المنال. يفضّل كثيرون الحديث عن تواصل وتفاعل وتشاور، لكنهم يرفضون فكرة الإطار الواضح. هذا الرفض ليس سببه فقط خشية هؤلاء من رفض الشارع لاعتبارهم ناطقين باسمه، بل لكون المجموعات نفسها لا تملك القدرة على الانتقال الى مرحلة عملانية بعيداً من الشعارات الكبيرة. وهو التحدّي الأبرز أمام أهل الحراك. وكل كلام آخر مكابرة لا تجاريها إلا مكابرة أهل الحكم. وهو تحدّ استثنائي، لأن كل خطوة تطرح لتفعيل الحراك أو تعميقه أو توسيعه شعبياً أو قطاعياً، لن تعالج أصل المشكلة المتعلقة بوجهته النهائية. حتى ولو كان بين الناشطين من يعتقد أنه، مع مرور الوقت، ستتشكل مجموعات قادرة على الاستقطاب بطريقة مختلفة عما هو عليه الوضع اليوم. وهؤلاء يتصرفون، للأسف، كأنهم في فرقة كشّافة لا في حراك شعبي يستهدف تغيير سلوك أو مشاركة من يدير البلاد في السلطة.

 

ترك الشارع من دون وضوح يسمح للخارج بالدفع نحو توتّرات دامية من أجل تحقيق مكاسب سياسيّة

 

 

الخطير في ترك الحراك من دون آلية قيادية واضحة هو أن من يملك القدرات الأكبر على فرض شعارات أو تحركات غير منسّقة وتحويلها الى وجهة أو الى أمر واقع، هو الأكثر سروراً بعدم تبلور الإطار القيادي. ومن يملك هذه القدرات في الشارع، اليوم، هي القوى التي لا يمكن تحديدها بدقة. وهي القوى والمجموعات التي تملك برامج تظهر على شكل أفكار وبرامج متنوعة، لكنها تعود في النهاية لتصبّ في مكان واحد. وهو المكان الذي لا يريد فرز الأمور بطريقة سليمة، بل يريد ترك الأمور على أعلى قدر من الغموض، ما يتيح إدخال ما يجب إدخاله من عناصر على الحراك بما يتناسب مع مصالح جهات من خارج الحراك.

وفي هذا السياق، هل بين أهل الحراك من يشرح، اليوم، سبب أن برنامج قطع الطرقات مثلاً، لا يخضع لأي مجموعة من المجموعات المعلنة عن نفسها قوة أساسية في الحراك، بل هي مهمة متروكة لقوى السلطة الحاكمة أو المعارضة، من تيار المستقبل بقيادة سعد الحريري الى القوات اللبنانية، الى أنصار وليد جنبلاط، الى مجموعات غاضبة لديها برنامجها المستقل. وبينها من هو متصل بمنافسين للحريري، وسط الشارع السني، أو من يعمل بالتنسيق مع أجهزة أمنية؟

ثم، من يمكنه من أهل الحراك شرح خلفية ووجهة قرارات ودعوات الى إضراب عام أو عصيان أو تظاهرات جوّالة. هل بإمكان أيٍّ من المجموعات التي تدّعي انها الأكثر فعاليةً ادّعاء أنها تعرف بالضبط من يقوم بهذه الأمور. كما هي حال من يتحكم بإدارة الساحات أو بطريقة تغطية «أعلام الانتفاضة» للأنشطة. وهل يفسّر لنا هؤلاء سبب امتناع معظم الناس عن المشاركة في التظاهرة التي دُعي إليها في مقابل السفارة الأميركية في عوكر. هل في ضعف المشاركة إشارة الى أن الجمهور عموماً غير مهتمّ بالتدخل الأميركي، أم غير معنيّ باستنكار التدخّل الأميركي أو غير مقتنع بوجود تدخل أميركي؟ وكيف سيكون الموقف لو خرج من بين أهل الحراك غداً من يطلب تحركاً ضد التدخل السعودي أو التدخل الإيراني؟ ومن يحسم لنا مسبقاً آلية الحشد وتنظيم المشاركة وتحضير الشعارات والخطابات؟

اليوم، يقف الحراك، ليس في مواجهة أسئلة صعبة عن مستقبله، بل في مواجهة الهروب المستمر من مسؤولية قوى رئيسية فيه عن الاستمرار في حالة الغموض، علماً بأن من لديه الحذر إزاء حجم التدخلات الخارجية، يزداد قلقه وخشيته وتعاظم ظنونه إزاء وجود قيادة خفية تتحكم بمفاصل الحراك الأساسية. وإذا كان الحراك كشارع غير معنيّ بالإجابة عن أسئلة القلقين، فإن القوى الرئيسية التي تدعم الحراك فكرةً ومشاركةً، لا يمكنها التصرف كأنها مجرد مجموعة مواطنين غاضبة. لأن التماهي مع الجمهور، في هذه اللحظة، يعني أنها ليست قوى مؤهلة لقيادة الشارع، وبالتالي سيكون من الصعب إقناع أحد بأنها مؤهّلة لتولّي مسؤوليات عامة في البلاد.

صحيح، أن المزاج العام الذي يشكّله الحراك قويّ، ويسود كتلةً كبيرةً من الناس سواء في الشارع أو في المنازل، لكن إبقاء الأمور على ما هي عليه، ينذر بعواقب وخيمة، وخصوصاً عندما يشعر المتفاوضون على مستقبل السلطة بالحاجة الى استثمار الحراك بأشكال مختلفة. وهنا يجب التحذير من كون اللاعبين الكبار، وخصوصاً الجانب الأميركي، يستعجلون حصاداً سياسياً لهذا الحراك، وهذا فريق حاقد وغبيّ وغير مسؤول، وقد يدفع الى توترات تسقط الناس في جحيم الفوضى والدماء. وما يمنع ذلك ليس وعي السلطة فقط، بل وعي أهل الحراك، وقدرتهم على تحمل المسؤولية.

مرة جديدة، آن الأوان لأهل الحراك للتقدم خطوة كبيرة نحو تشكيل إطار أو ورقة عمل موحّدة تمهّد لحوار لا بدّ منه مع القوى النافذة في الحكم بغية الوصول الى حلّ انتقالي يمهّد لمرحلة جديدة من إدارة الدولة.