أصحّ ما قيل في المماحكات الدائرة حول مرسوم دورة الانصهار الوطني، حسب التسمية التي أطلقها الرئيس ميشال عون، على دورة ضباط ١٩٩٤، التي تحمل اسمه، انه صراع سياسي على مواضيع أخرى.
وهذا القول للرئيس عون نفسه، خلال استقباله قيادة الجيش للتهنئة بالأعياد أمس، وقد أضاف الى ذلك اعترافه بالفساد المستشري في الدولة الذي نقاومه.. ومع حديثه عن الفساد تطرق الى حرية الرأي التي من دلائل احترامها عدم وجود صحافي أو اعلامي في السجن…
طبعا الرئيس عون يرد على أقوال بنيت على ملاحقات قضائية ضد اعلاميين وصحافيين وحتى سياسيين، بعضها قد يكون مبررا وغالبها كان بالامكان صرف النظر عنه، إذ ليس كل ما قيل يستحق الملاحقة، بل ان بين ما قيل حول الفساد والصفقات، يستحق المباركة والتشجيع.
واقع الحال ان الكثير من الشعارات التي نتداولها في هذه الأيام، ذما أو تنويها، كحرية الرأي والشفافية وصحة التمثيل والاحتكام الى القوانين واحترام المؤسسات الرسمية، مجرد عناوين عكاظية نختار منها ما نشاء، وما يناسب الحالة أو المرحلة، بمعزل عما قد يسببه خيارنا من صدع قانوني أو دوخة دستورية، وصولا الى تجاوز حدود التعاطي السليم وانقطاع اللجام أحيانا.
وما يزيد الطين بلّة، مواجهة هذه الهفوات الظرفية أو العابرة، بالزجر والحجر، ثم الاختباء خلف الإصبع، إخفاء للهزّات. في مثل هذه الصحراء السياسية العراء، والمكشوفة للضوء والريح، حيث ما لا يظهر كله يظهر جُلّه، فيفجّر فائض الكبت ويخرج الناس من أقبية الصمت، ويحرق المهل ويدمّر المراحل.
توالد الأزمات علّة المرحلة اللبنانية الراهنة، من أزمة الى أزمة، ومن ثغرة الى فجوة، فتسوية قصيرة العمر، فكم نأي بالنفس جرت مبايعته، وكم خرق أصاب هذا النأي بسهام مبايعيه، وقد غفل عن البعض ان ثمة ملفات اقليمية أكبر من تلك التي ننشغل بها ونتطاحن من أجلها، ملفات خارج المدارك الذاتية والطاقات المحلية، المشغولة بالتنفيعات والمحاصصات، وبتسخير الطوائف والجماعات، للمكاسب، الآنية والظرفية، فيما المصالح الدولية تتمدّد من حولنا وعبرنا وعلى حساب أرصدتنا الخاوية.
بعض السياسيين الواعين، يرون مشكلة لبنان في اثنين: انعدام الثقة، وضعف الالتزام، ومؤدى ذلك تسخيف المبادئ وتقديس التسويات، انها الذهنية التجارية الموروثة من زمن مضى ويستمر…
يقول أحد الحكماء: الوقوف على قدميك يمنحك مساحة صغيرة في هذا العالم. لكن الوقوف على مبادئك يمنحك العالم كله.
ومن المبادئ الأساسية اللبنانية، ما حدّده الرئيس حسين الحسيني، المهندس الأبرز لاتفاق الطائف، في بطاقاته للمعايدة، التي كنت محظوظا بتلقي واحدة منها، كما في كل سنة، بمناسبة الأعياد، هي أربع مسلمات تشكّل معنى لبنان، وهي مسلمات العيش المشترك في المجتمع اللبناني الواحد:
أول هذه المسلمات، الحرية، وثانيها المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، وثالثها العيش الكريم، ورابعها التكافل والتضامن، وذلك في اطار الدولة الواحدة، وبالولاء التام للوطن الواحد…
وهذه المسلمات – المبادئ، واردة في صلب وثيقة الطائف، التي يحرص الرئيس الحسيني على التذكير بها، في كل مناسبة وظرف، بعدما أطبقت على هذه الوثيقة الخطوب، من ساع الى تجويفها بذريعة التطوير، الى طارح تعديلها بهدف التدمير، مع قلّة يطالبون بتطبيقها كاملة، وغالبا ما كانت هذه المطالبة مجرد صرخة في واد…
انطباع الدول ان اللبناني اذا أراد يستطيع… فمتى يصبح عند حسن الظنّ؟