يشكّل إسقاط النظام الاقتصادي الحر في لبنان اليوم رافعة لمعركة وقودها الليرة اللبنانية وثروات ومداخيل اللبنانيين، الذين يعانون منذ بداية أزمة شح الدولار وحجز الودائع وتقطيرها لدى البنوك اللبنانية، وصولاً إلى المعركة حول حاكمية مصرف لبنان.
لا بدّ من استعراض الأدبيات الاقتصادية التي يستند اليها مفهوم الحرية الاقتصادية والتي كان افضل مُعبّر عنها «آدم سميث»، المعروف بأب الاقتصاد. وسميث كان داعياً لتعظيم مصالح الفرد التي ستؤدي الى تعظيم مصلحة الاقتصاد الكلي. لكنه استند في نظريته إلى التنافسية الكاملة التي تضمن الكفاءة الاقتصادية. هذه التنافسية الكاملة هي تنافسية غير احتكارية، والأرباح تبعاً لذلك هي تكلفة الفرصة البديلة للعمل الذهني والرأسمال الموظف، بما يؤول الى تعزيز المدخرات والاستثمارات في ظل هذه التنافسية وعودة المنافع الى المجتمع بكامله.
لقد استعادت نظرية سميث بعضاً من بريقٍ مزعوم مع سيادة نظرية «ميلتون فريدمان»، الداعية إلى خروج الدولة من التدخّل في الاقتصاد بغير الأدوات التقنية، خصوصاً سعر الفائدة والأدوات النقدية (وهنا يفترق عن سميث) مع ترك شؤون الاقتصاد للشركات التي تسعى هنا الى تعظيم الربح والثروة الخاصة بالمساهمين. فريدمان مثّل انقلاباً كاملاً على نظرية اللورد «كينز»، التي سادت بعد الأزمة الاقتصادية العالمية المعروفة بالكساد العظيم أواخر عشرينيات القرن الماضي.
كينز بذاته شكّل انقلاباً على سميث، ودعا للإنفاق والتدخّل الواسع للحكومة من أجل تصحيح اختلالات العرض والطلب في الاقتصاد الكلي.
إذاً، هناك مدرستان كبيرتان في تاريخ الفكر الإقتصادي تناديان بالحرية الاقتصادية (سميث وفريدمان) ونظرية كبيرة تحد (ولا تلغي) من حرية الرأسمال عبر تعزيز دور الدولة في الاقتصاد.
في كل هذه المدارس والنظريات لا وجود لنموذج يشبه النموذج الاقتصادي اللبناني، الذي يُسمّى افتراضاً بالنظام الحر. لقد راجت كلمة الحرية الاقتصادية في لبنان بمعناها المقارن منذ خمسينيات القرن الماضي. بمعنى أنّ حرّية لبنان الاقتصادية تستمد شرعيتها من الدور الطاغي للدولة في الدول العربية في إدارة الشأن الاقتصادي مقارنة بحرّية القطع وحرية دخول وخروج الرساميل في لبنان.
لذلك نجد تعبيرات مثل «سويسرا الشرق» و «وبنك العرب» مستمدة تحديداً من هاتين الافضليتين: حرّية القطع وحرّية تحرّك الرساميل.
انّ الأساس في اتباع اي نموذج اقتصادي يستند إلى الأفكار الاقتصادية الكبرى التي حكمت التاريخ، هو بوجود إستراتيجيات اقتصادية للدول، تطوع النموذج على الظروف الخاصة بكل بنية اقتصادية. فأي استراتيجية اقتصادية يتبع لبنان؟
لقد بُني النظام الاقتصادي اللبناني على حاجة المنطقة، في ظل ارتفاع اسعار النفط وطفرة الطلب المصاحبة التي عاشتها المنطقة، وفي ظل نزوع الاقتصادات العربية الكبرى في مصر والعراق وسوريا نحو تقييد حركة الرساميل، بما أعطى فرصة استثنائية لهذا البلد المتوسطي الصغير ليلعب دور موئل الرساميل الهاربة من السياسات المناهضة للرساميل، ومركزاً لتحويل فوائض النفط الى بنوك واقتصادات الغرب.
بعد الحرب، بدا لبنان عاجزاً عن استعادة الدور الذي أفقدته ايّاه التغيّرات في خمسة عشر عاماً، واندماج الاقتصادات النفطية بالاقتصادات الغربية، كما بالتحوّل الكبير الذي شهده العالم العربي نحو سياسات اكثر صداقة للرأسمال.
انّ ظروف انتهاء الحرب قد استعجلت بعاملين خارجيين بين التسوية السورية الخليجية والدولية، بفعل حرب الخليج الثانية واتفاق اوسلو، الذي فتح المنطقة على احتمال التسوية الاقليمية التي سرعان ما تلاشت.
لكن هذين العاملين وتداعياتهما لم يجيبا عن السؤال الرئيسي: اي دور للبنان بعد الحرب؟
مصارف بلا قاعدة رسملة، قوى سياسية نقلت منظومة مصالحها الى داخل الدولة، حاجات ضاغطة للانفاق العام، حروب وصراعات في اقتصاد لا دور له في الاقليم.
اختزل النموذج الى قطبين: النظام المصرفي والدولة كمنفق كبير في ظل تحالفات مع القطاع الخاص المرتبطة مصالحه بالقطاع العام. انزلق النموذج نحو فقدان خواص الحرية الاقتصادية وتكثيف النموذج كما يلي:
1- انفاق زبائني غير منتج مستوحى من كينزية انتقائية ومشوهة.
2- اقتصاد مجموعات المصالح الخاصة بما هو مزيج من نماذج جمهوريات الموز والمافياقراطية.
انّ البحث عن الحرّية الاقتصادية بما هي حرّية تنافسية تقوم على الكفاءة غير متوفرة في هذا النموذج. الحرّيات الوحيدة التي كان يوفرها هذا النموذج هي حرّية تحريك الاموال ونظام القطع العائم المدار من قِبل المصرف المركزي.
هناك توثيق رسمي اليوم لضياع الثروات المودعة في المصارف، وهناك ظواهر سوريالية لتعدّد اسعار الصرف في ظل سعر صرف رسمي «سوفياتي». انّ آخر اوراق التين لحرّية اقتصادية مزعومة قد سقطت، فأي نظام اقتصادي حرّ هو هذا؟