يُعتبر تاريخ 6 شباط 2006 من الأيام التي بدّلت مسار السياسة اللبنانية، ولا يزال اللبنانيون عموماً والمسيحيون خصوصاً يعيشون تداعيات ذاك اليوم.
قبل الإنتخابات النيابية التي جرت في ربيع 2005، أكد الرئيس سعد الحريري أن المعارضة وقوى 14 آذار ستحصد أكثر من ثلثي أعضاء مجلس النواب، يومها كان يحتسب الحريري رئيس “التيار الوطني الحرّ” العماد ميشال عون من قوى المعارضة، عكس رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط الذي حذّر من “التسونامي” القادم ومن التحالفات التي قد ينسجها مع حلفاء النظام السوري.
جرت إنتخابات 2005، وفاز تحالف قوى 14 آذار بـ72 مقعداً، وحصد عون 21 مقعداً، في وقت فاز “حزب الله” وحركة “امل” وحلفاء سوريا بـ35 مقعداً، أي أقل من ثلث عدد مجلس النواب.
صدقت حسابات الحريري الرقمية حينها، لكن غاب عن باله أن عون أصبح في الضفة الثانية وأبرم صفقة مع النظام السوري، وثّقها الوزير السابق كريم بقرادوني في كتابه “صدمة وصمود” عن عهد الرئيس إميل لحود، من ثمّ إنتقل من الدفاع إلى الهجوم بتوقيع إتفاق مار مخايل في 6 شباط 2006، فاتحاً صفحة جديدة من تاريخ الصراع اللبناني.
في تلك المرحلة، كان النظام السوري و”حزب الله” مطوقَين بسيف التحقيق الدولي في جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكان “الحزب” بحاجة إلى غطاء مسيحي ليشن هجوماً مضاداً ويقضم المواقع المتقدّمة في الدولة، فلا يستطيع أن يهجم بالأجنحة الشيعية فقط، وحلفاء دمشق باتوا “موضة” قديمة، وبالتالي يحتاج إلى جناح مسيحي يحمل عنواناً تغييرياً، فكان “الإصلاح والتغيير” شعاراً لتحقيق المآرب.
وقعت حرب تموز 2006، وبدّلت معها موازين القوى الداخلية والإقليمية، عندها رأى “حزب الله” الفرصة مؤاتية لكي يهجم مطالباً بالشراكة الكاملة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وبالثلث المعطّل، متحججاً بأحقية أكبر كتلة مسيحية بالتمثيل الحكومي، فلو لم يكن عون إلى جانب “حزب الله” فكيف سيطالب “الحزب” بالثلث المعطّل وهو يملك أقل من ثلث أصوات مجلس النواب؟
في عودة إلى مجريات تلك المرحلة التأسيسية والتي يدفع لبنان ثمنها الآن، فقد استعان عون ببندقية “حزب الله” وفائض القوة لديه من أجل تحقيق مكاسب داخل النظام اللبناني، في مشهد شبيه بما قبل الحرب الأهلية عندما حاول مؤسس الحزب “التقدمي الإشتراكي” كمال جنبلاط و”الحركة الوطنية” إستعمال البندقية الفلسطينية من أجل تغيير الموازين الداخلية، والمطالبة بحصة وازنة داخل النظام اللبناني.
نجح عون في لعبته، فـ”حزب الله” المحتاج إلى شريك مسيحي لا يهمه عدد الوزراء أو النواب، وقد أمّن عون لمشروعه التوسعي الغطاء المسيحي، فبدأت الدويلة تقضم الدولة فيما عون واصل قضم المواقع المسيحية.
ولا يمكن إلقاء اللوم في تلك المرحلة على “حزب الله” وعون وحدهما، بل يقع اللوم أيضاً على بعض قوى 14 آذار وعلى رأسها تيار “المستقبل”، فالأخير لم يدعم حلفاءه المسيحيين وأراد الإستئثار بالحصة المسيحية، وقد أعطى في أول حكومة بعد إنتخابات 2005 الحلفاء المسيحيين حقائب غير دسمة، في حين أصرّ في انتخابات 2009 على الإحتفاظ بكل حصته من النواب المسيحيين في الأشرفية، وهذا الأمر كان سبب خلاف رئيسي بين “القوات” و”المستقبل”.
طوال الفترة الماضية، لم يبخل “حزب الله” بدعم حليفه عون بالحقائب والمنافع والمراكز، ولم يُقصّر عون في تغطية “حزب الله” بكل شيء حتى بالإيديولوجيا، لدرجة أن بعض نواب “التيار” وكوادره ومناصريه باتوا يضعون صورة السيد حسن نصرالله والمرشد علي الخامنئي إلى جانب صورة السيدّ المسيح ومار شربل، ويشتمون من يريد “الحزب” شتمه ويحبون من يريد “الحزب” دعمه.
في كل معارك السلطة التي خاضها “التيار الوطني الحرّ” كان “حزب الله” إلى جانبه، وفي كل المعارك الكبرى التي ورّط “حزب الله” لبنان فيها غطاه “التيار”، من حرب تموز 2006 إلى 7 أيار 2008 إلى تطيير حكومة الحريري وضرب “اتفاق الدوحة” في كانون الثاني2011 إلى مشاركته في حرب سوريا منذ عام 2012، وصولاً إلى دعمه لحروبه الإقليمية في العراق واليمن وضرب علاقات لبنان مع الدول العربية، خصوصاً في الفترة التي كان فيها باسيل وزيراً للخارجية، إلى أن حلّت العزلة الكاملة على لبنان بفضل سياسة العهد الذي دعم الدويلة في كل مشاريعها بدل تقوية الدولة، ولم يعِد وصل ما انقطع من علاقات لبنان مع الدول العربية.
منذ القدم، عُرف عن المسيحي أنه صلة الوصل بين الشرق والغرب، وكان الكتّاب والمفكرون والشعراء المسيحيون من رواد النهضة العربية، وساهموا في إعمار الخليج العربي وحوّلوا لبنان إلى مدرسة الشرق ومستشفاه وفندقه والقيمة الحضارية والتطويرية فيه، في حين أن النكسة الكبرى هي أخذ لبنان إلى عزلة دولية بعد ربطه بالمحور الإيراني وضرب علاقته بالعالمَين العربي والغربي، وهذا الأمر لا يزال من تداعيات اتفاق “مار مخايل” السلطوي الذي أتى بنتائج كارثية على اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً.
ولعلّ الصورة المعبّرة لكل ما يحصل هي وضع باسيل، رئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية، على لائحة العقوبات الأميركية وإغلاق كل الأبواب العربية والغربية بوجهه، وكل ذلك ليس من أجل مصلحة لبنان بل لحماية الدويلة والنطق باسمها، وبالتالي فإن المسيحي الذي يراهن على الدولة بات في وضع صعب، وقد أُخذ إلى مسار لا يريده وبعيد كل البعد عن خطه التاريخي، حتى أن “التيار” أوهمه أنه أهل ذمة ولولا “حزب الله” لكانت “داعش” وصلت إلى جونية، في حين أن الإنتخابات النيابية في ربيع العام المقبل كفيلة بإنهاء هذه الوصمة التي وُصم بها المسيحيون منذ 15 عاماً.
وتبرز أصوات داخل “التيار الوطني الحرّ” تعترض على الإستمرار بالعلاقة مع “حزب الله”، والبعض يطالب بإعادة النظر في وثيقة “مار مخايل” لأنها لم تعد صالحة، فالبرتقاليون يدفعون الثمن والإستمرار بتغطية سياسات “حزب الله” هو انتحار للمجتمع المسيحي واللبناني.
صمد تفاهم “مار مخايل” 15 عاماً في حين أن البعض كان يُراهن على انهياره عند كل مطب، لكن تأكيد قيادات من “التيار الوطني” و”حزب الله” أن هذا التفاهم سيستمر يعني ان هناك مرحلة جديدة من ربط لبنان بالمحور الإيراني، لأن عون ليس زعيم العونيين بل رئيس جمهورية لبنان، البلد الذي دفع ثمن سياسة إلصاقه بالمحور الفارسي.
قد يكون صحيحاً ان “حزب الله” دعم عون في معركة إستعادة المواقع، لكنه في المقابل لم يمنحه ما يخالف خطه الإستراتيجي، فالمكاسب التي تحققت هي لبعض النافذين العونيين وليست للمسيحيين أو اللبنانيين.