“التيار الوطني الحر” ليس في أحسن أحواله… إن لم نقل، هو في أسوأ أحواله. تتصرف قيادته بكثير من العشوائية والتخبّط الذي يعانيه الغريق. “الرئيس المؤسس” ميشال عون في “قصره”، بعيد كلّ البعد عما يجري داخل الحزب الذي ألهم شبابه ومناضليه وطلابه ليصير من أكثر الأحزاب انتشاراً على مساحة الوطن. أما رئيسه الحالي جبران باسيل فمهجوس بمستقبله ومصيره بعد العقوبات الأميركية، وبعد انتهاء العهد على انفجار كارثيّ سيدخل التاريخ من باب لعنة لن توفّر حجراً أو بشراً.
أما “التيار الوطني الحر” فمتروك لمصير، بات يشبه مصير من سبقه من تنظيمات حزبية لم يبق منها إلا مقرات فارغة، وبيانات أسبوعية لا تُقرأ ولا تُسمع… ولساعات فراغ قد تتوفّر لرئيس الحزب ليدير حزبه عبر “الواتساب” من خلال تعيين من هنا وإقالة من هناك، وفقاً لنصائح “خلية الهايكينغ” التي لم تتغير ولو أن الظروف تغيّرت والتحديات صارت أصعب بكثير.
ولكن هذا المسار لم يخرج من توقعات بعض عارفي التيار، خصوصاً وأن قيادته لم تحاول الاستفادة من أيامها البيضاء لتعزيز حضورها على الأرض لمواجهة الأيام السوداء. فقد “سكرت” بوصول العماد ميشال عون إلى الرئاسة وراحت تتعامل مع التطورات والأحداث على قاعدة الربح السريع والموقت، من دون وضع استراتيجية بعيدة الأمد تحمي الحزب وجمهوره وتؤسس لمجتمع متضامن ومتراص. بهذا المعنى، سقط تفاهم معراب، بضربة الخلاف على الحصص حين رفض التيار مشاركة “القوات” كما اتفقا، على تعيينات مجلس إدارة كازينو لبنان، وهكذا دواليك.
كذلك “سكرت” بالنتائج التي تحققت في الانتخابات النيابية، فاكتفت بالنصف الملآن من الكوب والذي يمثّله عدد الجالسين الى طاولة تكتل “لبنان القوي” بمعزل عن الطريقة التي أوصلت هؤلاء، ولهذا لم يتوان عدد منهم عن المسارعة إلى مغادرة المركب عند هبوب أول عاصفة!
صار التركيز على “صورة” جبران باسيل، وشخصانية سلوكه، وهو يمارس رياضة الهايكينغ أو صناعة المنقوشة، وتناسى “التيار” جوهر أساسه وأهدافه، بالتوازي مع شيطنة المعارضين وتجيير كل الخدمات للبترون. ولعل المجد الذي أعطي له، في وضع ختميّ رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة في جيبه، إبّان شهر العسل مع رئيس “تيار المستقبل” سعد الحريري، جعله يستخفّ بكل شيء، وينسى أنّ العهد بدأ أيامه الأولى على أزمة مالية – نقدية غطّت بعضاً من عورتها الهندسات المالية، من دون معالجتها.
أكثر من ذلك، دفعت “السكرة” بجبران باسيل إلى استخدام خطابات الاستفزاز والتناقضات التي لم تكن ضرورية ولا استثمار لها، والتي وضعته في مهب الخلافات مع كل القوى السياسية، الصديقة والخصمة. وفي كل هذا، كان “التيار” يدفع من رصيده الشعبي.
حديثاً، أنهى “التيار” سلّة تعيينات طالت القيادات الوسطية التي يمثّلها منسّقو الأقضية الذين يعتبرون عصب القواعد الحزبية ومحرّكيها، مع العلم أنّه في أيلول 2018، أجرى باسيل نفضة شاملة في المواقع الوسطية، وأصدر قراراً بتعيين عدد من منسّقي الأقضية والمناطق، ثم عاد بعد حوالى سنة وأجرى بعض التعديلات الطفيفة بحجة أنّ هؤلاء لم يتمكّنوا من “التقليع” في مهمّتهم الجديدة.
وقد تبيّن من النفضة الجديدة أنّ “نفوذ” نائب الرئيس، القيادي العتيق، منصور فاضل، هو الطاغي على هذه التغييرات. لا بل يتردّد أنّ فاضل هو من أقنع جبران باسيل بشمولية التغييرات وألّا تقتصر فقط على المواقع المشكو من ضعفها كما حصل في جولات سابقة. وتعود هذه الحماسة إلى رغبة فاضل في أن تكون له الكلمة الفصل في هذه التعيينات كونه يعرف الأرض جيداً، وأكثر من غيره من القياديين، وتحديداً نائبة الرئيس للشؤون الإدارية مارتين كتيلي، وليتمكّن بذلك من إمساك القواعد على نحو حديديّ.
وتحت عنوان تطويق أي ردات فعل سلبية نتيجة هذه التغييرات، أعطت القيادة لهذه النفضة الطابع الشمولي الذي لا يستثني أي موقع، ما يعني أنّ “الصالح طار بعزا الطالح”، مع أنّ أزمة جائحة كورونا أثبتت أنّ ثمة منسّقين بذلوا جهوداً استثنائية في متابعتهم ونشاطهم ومبادراتهم، على خلاف غيرهم الذين لم يكونوا على قدر المسؤولية. لا بل أكثر من ذلك، بدا أن لتلك التعيينات خلفية تطال الاستحقاق النيابي المنتظر من خلال تعيين منسقين غير ممسوكين من النواب، لا سيما القدامى منهم.
عادة، ما تنتهي أي جولة من التعيينات أو الانتخاب في “التيار الوطني”، إلى شيء من الاعتراضات أو التحفّظات. هذه المرة تبدو الأرض غير مكترثة بما قررته القيادة. وكأنها في حال سبات أو يأس لم يعد ينفع معه الاعتراض أو ابداء الرأي. صار “التيار” أشبه بمؤسسات الدولة: عجقة مراكز ومكاتب، ولكن من دون فعالية. في “التيار” عشرات اللجان المركزية، ولكن حين طلبت القيادة من المحازبين أن يقصدوا مقر الحزب في ميرنا الشالوحي للتعبير عن اعتراضهم على وضع جبران باسيل على لائحة العقوبات الأميركية، لم يجمع هؤلاء أكثر من مئة محازب!
باختصار، “التيار الوطني” أشبه بنار تحت الرماد. هدوء على السطح، وغليان تحت الطاولة. وكأن الجميع ينتظر مرحلة ما بعد ميشال عون.