عن التسوية الرئاسية والمعركة في وجه الحراك
لعلّها المرحلة الأكثر حراجة بالنسبة الى «التيار الوطني الحر» منذ عودة زعيمه العماد ميشال عون الى لبنان قبل 14 عاما. فمنذ العام 2005، لم يمر التيار بفترة عصيبة كما الآن. هو بالكاد أجرى انتقالا للقيادة من المؤسّس، الى الخليفة، الوزير جبران باسيل، الذي يجد نفسه في موقع دفاعي أمام اتهامات شعبية قد تطيح بكل طموحاته الرئاسية، وهو الذي يُعد العدة لانتقال رئاسي أيضاً لا يبدو أنه سيكون سهلاً، كما بدا للوهلة الأولى حتى أيام قليلة قبل اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول.
ولأسف باسيل الشديد، فإن منتفضي الشارع قد وضعوه على رأس من يجب إسقاطهم من السلطة. هو حاول والتيار الانتقال من موقع الدفاع الى موقف الهجوم في الشارع، لكن الأزمة بدت ذات وجهين بالنسبة لهما: فمن ناحية، سيكون من شأن تصعيد التيار في الشارع أن يؤدي الى صدام مع الشوارع الأخرى التي امتطاها خصوم التيار وعلى رأسهم القوات اللبنانية. وفي الشارع، ليس هناك من منتصر، أما الخاسر، فسيكون «العهد القوي» من دون أدنى شك. ومن ناحية أخرى، فإن السكوت على التهجمات سيعني ضرب سمعة وهيبة التيار يوماً بعد آخر، وسيؤدي هذا الأمر الى أذيته والعهد.
علاقة قلقة مع «المستقبل»
اليوم، وباستثناء حزب الله، لا يحتفظ التيار بعلاقة راسخة مع أي من الأفرقاء السياسيين الكبار. حتى العلاقة مع تيار المستقبل وزعيمه الرئيس سعد الحريري يعتريها الاهتزاز، هذا في أحسن الأحوال، مع أن وصف التدهور يليق بها.
وبعد أن ظهر التباين في بعض المحطات السابقة قبل أن يتم ترميمه، فجّرت استقالة الحريري في 29 تشرين الأول الأمور بين الجانبين، ثم برزت خلافات الصلاحيات وتفسير بنود الدستور، وإن لم تكن غائبة قبلها لكنها طفت اليوم في شكل صارخ.
والواقع أن أصواتاً خرجت لدى العهد والتيار، وهما في الحقيقة فريق واحد مهما حاول كثيرون التفريق بينهما للدلالة على الحيثية الخاصة لكل منهما، للقول إن الإستقالة غير قائمة، كون رئيس الجمهورية ميشال عون لم يقبلها، لكن العهد والتيار تجاوزا الأمر لكونها معركة خاسرة دستوريا ولعدم جلب البلاد نحو مشاكل أخرى هي بغنى عنها.
ثم إنفجر خلاف أكبر بين الجانبين يتعلق بمسألة الإستشارات النيابية الملزمة لاختيار رئيس جديد للحكومة. وكان لتريث عون في إعلان موعد هذه الإستشارات ومن ثم إجراء مشاورات مفتوحة للتأليف قبل التكليف وقع سلبي لدى «تيار المستقبل» كما لدى بعض أركان الطائفة السنية الذين اعتبروا ان عون يصادر صلاحيات خاصة برئيس الحكومة، بينما يحاجج مؤيدو الرئاسة بأن لا إشارة دستورية لتحديد موعد عقد هذه الإستشارات.
وبالنسبة الى التيار، فإنه كما أن الدستور لا يحدد مهلة للرئيس المكلف لتشكيل حكومته، فإنه يوفر أريحية لرئيس الجمهورية لإجراء الإستشارات، وما هجوم أركان الطائفة السنية على العهد سوى استهدافا للعهد في إطار هجمة كبرى عليه. لكن، في كل الاحوال، إستدرك العهد الموقف محددا موعد الإستشارات النيابية بعد غد الإثنين. وإذا كانت الخطوة تعتبر حكيمة في هذه الظروف، فإن تساؤلات أحاطت بموعد الدعوة التي أرجئت أياما ما يعني ان الأمور لا تزال غير ناضجة لتسمية المرشح لرئاسة الحكومة.
يسجل التيار إرجاء الاستشارات حتى الإثنين في صالحه كون الأمر يعني توفير المزيد من الوقت لتعزيز التوافق على إسم الرئيس المقبل للحكومة، إذ يريد رئيس الجمهورية توافقا مسبقا يقي البلد المزيد من الأزمات، علما بأن الحريري نفسه كان من بين من شاورهم عون في الموضوع، لكنه الآن بات أمام اتخاذ القرار الصعب مع اقتراب يوم الإثنين.
لكن مهما كان من أمر، فإن الخلاف يتخذ طابعا سياسيا في الدرجة الأولى، إذ يمكن تجاوز أي أزمة دستورية الطابع لو كان التوافق سيد الموقف، ولو كانت التسوية الرئاسية التي أتت بعون رئيسا للجمهورية والحريري رئيسا للحكومة، والتي كانت في حقيقتها تمهيدا لثنائية مقبلة بين الحريري وباسيل نفسه، سارية المفعول.
ولعل هذا الأمر هو ما مهد لخروج الحريري وباسيل من الحكومة، أو هكذا يريد التيار أن يظهر بعد أن راج في أوساطه أن الحريري خذل عون وباسيل لمرات عدة، آخرها في استقالته من رئاسة الحكومة في ظرف سياسي دقيق جدا، إن لم يكن خطيرا، مع علمه بمعارضة العهد، ومن ثم «ركوبه» موجة الحراك في الوقت الذي بات فيه باسيل مجردا أمام فورة الناس.
والواقع ان ثمة أسئلة كثيرة حول مصير التسوية، ومع الضربة التي تلقتها طموحات باسيل، بات المهم اليوم حصر الاضرار قدر الامكان. ولعل القرار الأهم والأذكى الذي اتخذه التيار وباسيل مؤخرا كان الهروب من وحل السلطة والانكفاء على الهامش من دون تحمل عواقب الإنهيار متعدد الأشكال، إقتصادياً وإجتماعياً وسياسياً. كان ذلك عبر قرار خروج باسيل من الحكومة المقبلة ومن مستنقع الحكم في ظل الأزمات الكبرى اليوم في البلد، وترقباً لانتخابات نيابية تفرز مجلساً أكثر مساعدة له للوصول الى الرئاسة، علما أنها تتعلق بظروف دولية إقليمية أكثر من تشكيلها حدثاً محلياً.
معركة خاصة في وجه الشارع
في موازاة التنافس السياسي والسلطوي، ثمة خصم جديد للتيار ظهر مؤخرا عبر الحراك الشعبي الذي بات يشكل معادلة لا يمكن التغاضي عنها بالنسبة الى اركان السلطة.
ويبدو من سوء حظ التيار والعهد أنهما زودا الحراك الشعبي بكل ما ينبغي لتزخيم احتجاجاته، وشكل الظهور الاخير لباسيل قبل أيام مثالاً صارخاً على ذلك بعد أن اعتُبر في الشارع مهندس قدوم الخطيب الى رئاسة الحكومة.
يكرر قياديو التيار انهم قد سبقوا المنتفضين بإطلاق المطالب الاجتماعية والحياتية للمواطن، لا بل ان البعض في التيار يعتبر ان الحراك قد سرق شعارات التيار واستعملها في الشارع موفرا الفرصة لأخصام باسيل في اعتلاء منصة الاحتجاجات واستغلالها.
ومن أسف التيار الكبير أنه بات في مواجهة معارضة الشارع بعد أن تصدر منذ ولادته ونشأته رفع مطالب الناس وحمل همومها وخاصة في السياسة. ويرى قيادي فيه ان تياره وباسيل يتعرضان للمزايدات من قبل الشارع كما الأخصام كالقوات اللبنانية، علما ان الحريري نفسه ليس بعيداً عنها وذلك لتغطية إخفاقاته.
الإنحناء للعاصفة
سيكون على التيار، اليوم وأقله في المرحلة المقبلة، الإنحناء للعاصفة مرحليا. وفي ظل متغيّرات محتملة خارجياً، سيبدو في موقع الانتظار والترقب والاستعداد. ولعل إعادة تصويب العلاقة مع الحريري تبدو في غاية الأهمية بالنسبة إليه، وقد يتطلب بعث التسوية من جديد تسمية الحريري في الاستشارات النيابية المقبلة بدلا من المهندس سمير الخطيب.
لا حل أمام رئيس التيار سوى تزخيم العلاقة مع الحريري، فالتسوية معه تعني رسم مستقبل الثنائية بينهما من جديد، وهو ما يعتقد التيار انه يوافق الحريري أيضا الذي عليه تحمل مسؤولية ما يجري وعدم الهروب الى الأمام، خاصة وانه لا يزال حاجة محلية ودولية، وخاصة، حاجة للتيار ولحلفائه.