يواجه محور الممانعة في لبنان للمرة التالية على التوالي، بعد عامي 2004 و2005، تحدّياً من طبيعة وجودية. وبعد أن خسر التحدي في المرة الأولى بسبب اعتقاده انّ اغتيال الرئيس رفيق الحريري كفيل بإجهاض التحولات الخارجية والداخلية، كيف سيتصرف اليوم مع التحدي الأشد خطورة؟
لم يصدر القرار 1559، الذي ينصّ في أحد بنوده على خروج الجيش السوري من لبنان، من خارج سياق الأحداث الدولية والإقليمية والمحلية، بدءاً من الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، مروراً بوفاة حافظ الأسد، وصولاً إلى هجمات 11 أيلول التي ردّت عليها واشنطن في العراق وأفغانستان والدخول إلى الشرق الأوسط من بابه العريض، كما انّ التطورات المحلية لم تكن أقل شأناً، من نداء مجلس المطارنة الموارنة، إلى تأسيس لقاء قرنة شهوان ومصالحة الجبل ولقاءات البريستول التي مَهّدت وأسّست لوحدة موقف على مستوى الداخل، وهذا التقاطع بين الخارج والداخل عَبّد الطريق أمام انسحاب الجيش السوري من لبنان.
وبعد أقل من 15 عاماً على أحداث العام 2005 دخل لبنان، اعتباراً من العام 2019، في مرحلة جديدة بعناوين ثلاثة: أزمة مالية حادّة لا يمكن معالجتها بأدوات محلية وتستدعي الاستجابة للشروط الدولية وإلّا فإنّ الانهيار سيتواصل، ما يعني أنّ الأداء الرسمي للفريق الأكثري أوقَع نفسه في الفخ، فلا هو قادر على إنقاذ البلاد، ولا هو في وارِد التجاوب مع الإصلاحات المطلوبة، فأصبح في وضعية مشلولة.
وأزمة شعبية تفجّرت مع انتفاضة 17 تشرين الأول في تعبير عن انعدام الثقة بالأكثرية الحاكمة، أمّا خروج الناس من الشارع فلا يعني عودة الثقة، بل تَحَيُّن الوقت المناسب من خلال انتخابات مبكرة او في وقتها او غيرها من الاستحقاقات من أجل التعبير عن الغضب الشعبي ضد الفريق الحاكم.
وأزمة عقوبات مفتوحة لم يعد الهدف منها فقط الضغط على «حزب الله» ومحاصرته، إنما عزله عن تحالفاته، وقد تحدثت واشنطن بصراحة تامّة عن الغطاء السياسي الذي يوفّره رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل للحزب، إلى درجة انّ ايّ حكومة يتمثّل فيها الحزب، ولو بشكل غير مباشر، لن تحظى بالمساعدات المطلوبة، وبمعزل عن تأكيد باسيل او غيره بأنّ العقوبات لن تؤثر على هذا التحالف، فإنّ الفصل النفسي بين القوى والشخصيات من جهة، والحزب من جهة أخرى، سيتحوّل إلى أمر واقع.
وفي موازاة الأزمات الثلاث المالية والشعبية والعقوبات، فإنّ «التيار الوطني الحر» يواجه بدوره 3 تحديات أساسية: التحدي الأول يتعلّق في كيفية الخروج من الأزمة المالية قبل الخروج من رئاسة الجمهورية. والتحدي الثاني يرتبط في كيفية التوفيق بين علاقته مع حليفه «حزب الله» بعد العقوبات التي طَرقت بابه، وبين السعي لرفع هذه العقوبات وإعادة خطوط التواصل مع العالم الخارجي عموماً وأميركا خصوصاً. والتحدي الثالث يتّصل في كيفية التوفيق بين استمرار باسيل في موقعه في رئاسة التيار، وبين انعكاس هذا الاستمرار على دور التيار وعلاقاته وتحالفاته وتفاعله مع عمقه الخارجي، حيث لا يَجد الجسم الاغترابي مثلاً، الذي ما زال يدور في الفلك العَوني، مصلحة بالربط مع باسيل خشية من أن تطاله العقوبات.
وعدا عن انعكاس هذه التحديات على شعبية «التيار الوطني الحر»، فإنها تجعله في موقع المتخبِّط داخلياً بحثاً عن مَخارج تؤدي إلى تحصين وضعه التنظيمي والسياسي، والأمر نفسه ينطبق على «حزب الله» الذي يجد نفسه مُحاصراً من 3 زوايا أساسية: من زاوية دوره الخارجي ودور حاضِنَته الإيرانية مع العقوبات والسلام العربي -الإسرائيلي المتدحرج وخشيته من حرب عسكرية قبل مغادرة الرئيس دونالد ترامب البيت الأبيض، ومن زاوية الأزمة المالية التي يرى فيها سعياً إلى فك الارتباط بينه وبين الدولة أو إسقاط الدولة على رؤوس الجميع، ومن زاوية الفصل بينه وبين تحالفاته عن طريق إشهار سيف العقوبات على رؤوس حلفائه.
وإذا كان «حزب الله» في العام 2005 قد قرر التخلُّص من الشهيد الحريري اعتقاداً منه بأنّ هذا الاغتيال سيُفرمِل الاندفاعتين الخارجية والداخلية، فكيف سيتعامل محور الممانعة مع الوضع المستجد الذي يشتد فيه الحصار خارجياً وداخلياً عليه، خصوصاً انّ أي مراقبة موضوعية لهذا الواقع تفيد بأنّ أقصى ما يمكنه فِعله هو الحد من الخسائر فقط لا غير، فلا بإمكانه المحافظة على الأكثرية، ولا انتهاء الأزمة سيتحقق من دون ان يقدم على التنازلات المتعلقة بدوره وسلاحه، ولا بإمكانه البقاء في موقع المتفرِّج لتراجعاته وصولاً إلى تغيير المعادلة الداخلية؟
وقد ينتظر الأشهر المقبلة قبل ان يُقدم على الرد كي لا يبقى في موقع رَد الفعل والتراجع المتواصل، فإذا لمسَ أنّ السياسة التي ستنتهجها الإدارة الأميركية الجديدة تختلف عن سابقاتها بما يُبقي الأمور على حالها أو القديم على قِدمه، اي أن يستمر الستاتيكو الحالي، عندها يطمئن على وضعه ولا يُبادر في اتجاه التصعيد خشية من أن يرتَدّ عليه هذا التصعيد تأسيساً على تجربة اغتيال الحريري، وأمّا في حال لمسَ انّ التصعيد سيتواصَل من أجل تغيير المعادلة على مستوى المنطقة، ومن ضمنها المعادلة التي حكمت لبنان منذ العام 1990، فإنه سيتّجِه إلى الرَد من منطلق انه لا يوجد ما يمكن ان يخسره. وبالتالي، يمكن ان يقوم بأيّ شيء حفاظاً على وضعيته ورفضاً للوضعية الجديدة.
وإذا كان الوضع ما زال يحتمل الانتظار لتَبيان الخيط الأبيض من الأسود في السياسة الأميركية الجديدة، إلّا انّ لبنان دخل في مرحلة شديدة الخطورة يمكن ان تُستعاد فيها الاغتيالات القادرة على تغيير المعادلات، اي ان يًستعاد سيناريو العام 2005، ولكن في الوقت المُستقطع لا بأس من مواصلة المحاولات الرامية إلى تغيير قانون الانتخاب بهدف تحويل أي انتخابات إلى صوَرية بهدف إعادة التجديد للأكثرية الحالية قطعاً للطريق أمام اي تغيير من خلال صناديق الاقتراع، ما يعني انّ العمل يتمّ على خطين متوازيين: مَنع أي تغيير من الخارج عن طريق الاغتيال او اي شيء من هذا القبيل، ومَنع التغيير من الداخل إمّا بالتمديد لمجلس النواب او بإقرار قانون انتخاب جديد.
وفي هذا الوقت تبقى الحكومة عالقة في شباك الفراغ بسبب 3 عوامل أساسية: العامل الأميركي في ظل رغبة قِوى عدة بتَرحيل التأليف لِما بعد تَسَلُّم الإدارة الجديدة ومعرفة توجهاتها الأساسية وان تكون الحكومة أوّل ورقة إيرانية للتفاوض مع هذه الإدارة، عامل العقوبات في ظل خشية الرئيس المكلّف من ان تُفضي تسمية الكتل للوزراء، ولو لاختصاصيين مُقنّعين، إلى رفض الاعتراف بهذه الحكومة وإبقاء لبنان معزولاً خصوصاً انّ التقاطع الأميركي-الخليجي على التشَدّد يؤشّر بوضوح إلى طبيعة المرحلة وسقفها وأهدافها، والعامل الثالث المتصل بتَمسّك العهد بالثلث المعطّل في حكومة يعتبرها الأخيرة في عهده، وهو في غير وارد التهاون مع حكومة قد تُعَمّر لِما بعد انتهاء الولاية الرئاسية.
فهذا التداخل بين العوامل الثلاثة يُرَحِّل التأليف إلى أمد غير معروف، بين «حزب الله» الذي يفضِّل التريّث إلى ما بعد التسلّم والتسليم بين ترامب وبايدن، والحريري الذي يفضّل ان تكون حكومته من اختصاصيين مستقلين فعلاً ليتجنّب أي عقوبات محتملة، والعهد مدعوماً من الحزب الذي يريد ان يرد اعتباره بعد العقوبات ويحافظ على إمساكه بمفاصل الحكومة تَهيئة لِما بعد 31 تشرين الأول 2022. وبالتالي، هناك سؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن التوفيق بين هذه الأهداف المتناقضة لتشكيل الحكومة؟