يبدو أنّ السنوات الأربع التي قضاها برونو فوشييه مستشاراً ثانياً للسفارة الفرنسية في طهران لا تزال آثارُها سارية المفعول في حركته الدبلوماسية حتى اليوم، وهو يوشك على إنهاء فترة عمله سفيراً فرنسياً في لبنان، حيث طوّر سلوكَه «المتعاون» مع إيران بشكلٍ نوعيّ، وبات يشغل «منصب» مسؤول التسويق الخارجي لحكومة «حزب الله» برئاسة حسان دياب.
في التقليد الدبلوماسي الفرنسي، فإنّ المستشارَين الأول والثاني في كلّ السفارات يتبعان للأمن الفرنسي الخارجي، وهو المجال الذي يُتقِن الإيرانيون حياكة الشباك فيه لتوظيف من تبدو عليهم علامات الميل للالتحاق بمنظومة المصالح الإيرانية، فتشرّب فوشييه أفكار الدفاع عن المشروع الإيراني في المنطقة، وعمل خلال خدمته في طهران على أن يكون في عِداد النُّخبة الفرنسية المؤيّدة للتموضع في الجبهة الإيرانية. وكما هو معروف، فإن هناك صراعاً داخل مواقع القرار، وفي الخارجية الفرنسية خصوصاً، حول مقاربة العلاقة مع إيران، فهناك من يريد التعمّق أكثر للحصول على المزايا من نظام الملالي، بينما يريد فريقٌ آخر «أن تأخذ باريس مكانها مع عواصم العالم الحرّ في التصدّي للتخريب والإرهاب الفارسي في المنطقة» وهذا الفريق يدرك تماماً طبيعة وحجم القدرة الإيرانية على التلاعب بالوقائع وعلى استخدام أوراق المنظمات المتطرّفة مثل تنظيمي «القاعدة» و«داعش» الذي هزّ باريس بضرباته الإرهابية.
هذا الصراع يتواصل اليوم بقوّة بين الفريق الداعي إلى التحاق فرنسا بألمانيا في تصنيف «حزب الله» على أنّه حزبٌ إرهابيّ بينما يطرحُ دبلوماسيون آخرون لهم علاقات مع الشركات الفرنسية العاملة في مجالي النفط والغاز، الاحتفاظ بالعلاقات مع إيران لتحقيق صفقات مالية كبرى.
فوشييه المروّج
لـ«الأكثرية» المعطّلة
السفير فوشييه هو من الطليعة المتقدّمة لـ«الفريق الإيراني» في الإدارة الفرنسية، وهو لا يترك فرصة إلاّ ويستغلّها لتبيض صفحة «حزب الله»، وهو القائل في إحدى محاضراته التي ألقاها، منذ سنة، في جامعة القدّيس يوسف بأن ثمّة «توجساً لدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب من إيران» مؤكّداً أن فرنسا مستمرة في الحديث مع الإيرانيين. أما بالنسبة الى «حزب الله»، فأعرب عن اعتقاده بأن «الذين يرفضون الحديث مع هذا الحزب يضلّون الطريق ويرفضون الحديث مع 30 في المئة من الشعب اللبناني الممثّلين في البرلمان»، وفي موقفٍ آخر أدلى به بعد الانتخابات النيابية قال إنّ «هناك أكثرية جديدة أفرزتها الانتخابات، والحكومة يجب أن تتألف انطلاقاً من هنا»، وعن سؤاله عمّا إذا كانت طبيعة الأكثرية التي تألّفت، وكونها «حليفةً لإيران»، أمراً يؤدّي إلى تأجيل التأليف، شدّد فوشيه على أنّ «الأكثرية هي الأكثرية».
مصادر مطّلعة على الأجواء الدبلوماسية السائدة حالياً في باريس تؤكد أن مسؤولين كبارا في العاصمة الفرنسية أعربوا عن امتعاضهم من تماهي سفيرهم في بيروت برونو فوشييه مع «حزب الله» بشكلٍ تام، وكأنه يعمل في السلك الإيراني وليس الفرنسي، بالنظر لخلفية خدمته في العاصمة الإيرانية وما نسجه من علاقاتٍ فوق العادة مع مستوياتٍ مختلفة من مواقع القرار الأمني والسياسي في طهران.
وتابعت المصادر إن المنحى الذي سلكه السفير فوشييه ومؤيّدوه في الخارجية، في السنوات التي عمل فيها في لبنان، حرفت مسار السياسة الخارجية الفرنسية إلى زوايا مظلمة تدفع إلى تموضع لبنان في المحور الإيراني، وفصله عن محيطه العربي، وعن علاقاته الدولية التي تعود إلى بداية استقلاله كبلدٍ مؤسّس للأمم المتحدة ومشارِك في وضع شرعة حقوق الإنسان العالمية، وارتباطه بالمنظومة الدولية التي وصفها رئيس كتلة نواب «حزب الله» محمد رعد ذات يوم بأنّه «نموذج الكازينو»، بينما وصفه حزبه بالقول: «نحن الذين نُعَلّمُ الناس كيف تُحفظ الكرامات وتُصان الأوطان.. فمنهجيتنا في تحقيق الانتصار أمثولة ونموذج سيستفيد من كل الأحرار في العالم، ومن حق شعبنا المقاوم أن يكون أمثولة ونموذجاً لتحقيق العزة والكرامة».
يريد «حزب الله» تحويل النموذج اللبناني إلى نموذجٍ إيرانيّ مصغـّر، وبدل الاقتصاد الحرّ يريد الحزب «اقتصاداً مقاوِماً» تماماً كما أعلن الرئيس ميشال عون، وهذا يعني ببساطة قطع علاقات لبنان مع العالم العربي، وتحديداً دول الخليج، ومع الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي، ودفعه إلى محور العقوبات والحصار الإيراني، المستند إلى أوهام التحالف مع روسيا والصين.
إنّ ما يشجعه السفير فوشييه هو عملياً حربٌ سياسية وثقافية شاملة، للانقلاب على تاريخ لبنان وهويته واستقراره، وهذا مُضرٌّ بالمصالح اللبنانية والفرنسية، وهو يسبح عكسَ توجّهات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والخارجية الفرنسية التي تحرص تقليدياً على استقرار لبنان سياسياً وأمنياً واقتصادياً، ممّا يثير الكثير من الشكوك حول مصلحة السفير فوشييه من تسويق مشاريع «حزب الله»، في وقت تقوم غالبية دول العالم بتصنيف هذا الحزب بالإرهاب.
أسئلةٌ للسفير المغادِر
تحدّث السفير فوشييه عن حكم الأغلبية، لكنه تجاهل كيف وصلت هذه الأغلبية، وكيف استخدمت السلاح والانقلاب وتعطيل المؤسّسات الدستورية وفرض قانونٍ انتخابي بالإكراه، بعد منع أغلبية 14 آذار من الحكم رغم فوزها في محطاتٍ عدة.
وكيف يغيب عن السفير الفرنسيّ أنّ جزءًا من هذه «الأغلبية» المستقوية بالسلاح، متهمة بقتل الرئيس رفيق الحريري صديق فرنسا الكبير، إضافة الى اغتيال العديد من الشخصيات اللبنانية سياسيين وإعلاميين.
كيف يُصفّق السفير فوشييه لخطة حكومة الرئيس حسان دياب المالية، بعد زيارته الرئيس نبيه برّي الخالية من الإصلاحات الضرورية التي يشترطها صندوق النقد الدولي، ومنها شَطبُ بند تكليف شركةٍ عالمية التدقيق في حسابات العاملين في الشأن العام من سياسيين وعائلاتهم وذويهم (peps) والذين يملكون ما يزيد عن المليون دولار، في دليلٍ جديد على الضغط السياسي الذي مورِس لوَقف التدقيق في الحسابات المالية.
نصرالله يضرب خطة الإنقاذ
أعلن أمين عام «حزب الله» حسن نصرالله رفضَه البند الآخر الأساس في شروط صندوق النقد الدوليّ وهو ضبط التهريب عبر الحدود، ورفَضَ نشر القوات الدولية لمراقبة الحدود اللبنانية السورية، بدون أيّ اعتبار للحكومة، داعياً إلى تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد و«التعاون» مع جيشه والاحتفاظ بمعابر حزبه العسكرية بدون أيّ تعديل على استباحته المتواصلة للحدود والسيادة الوطنية.
من سيأتي بالأموال: إيران أم العرب؟
هل يعتقد السفير فوشييه أنّ فرنسا تستطيع وحدها تأمين الدعم للبنان الواقع تحت حكم «حزب الله»، وهل تكفي محاولات التذاكي للحصول دعم صندوق النقد الدولي وعلى أموال مؤتمر «سيدر» التي ستأتي من دول الخليج، وتحديداً السعودية، بينما لم يحظَ الرئيس دياب بزيارة أيّ سفير عربي ذي وزن، وخاصة سفير المملكة العربية السعودية.
يعمل السفير فوشييه عكس التاريخ وعكس المستقبل. فتاريخ «الأم الحنون» للبنان، هو تاريخ شارل ديغول وفرانسوا ميتران وجاك شيراك، فهل سيكون مقبولاً أن يقوم سفير بالتلاعب بسمعتها وبمصير هذه العلاقة التي لا تتوقـّف عند لبنان، بل تمتدّ لتشمل العالم العربي؟
لبنان عربي
باختصار: «لبنان الإيراني» لن يحظى بدعم الغرب والعرب، و«لبنانُ الرّسالة» والتنوّع والعروبة، هو الذي سيضع المجتمع العربي والدوليّ جهده لإنقاذه ودعمه، فهل تريد فرنسا أن تكون في هذا المحور، أم في محور العزل والحصار والإرهاب؟
السؤال موجّه إلى الرئاسة والخارجية الفرنسية، في وقتٍ يحاول فيه السفير فوشييه توريط بلاده في تعقيدات وخطايا سياسات إيران في لبنان، على قاعدة المثل اللبناني الشهير «يا رايح كثّر قبائح»، فهل يُكمل «مهمّته» الخطرة أم تبادر باريس لسحبه وإنهاء هذه الأعمال المُريبة الدائرة بين الضاحية و«قصر الصنوبر»؟!