كان يفترض بالفرنسيين أن يحسموا أمر السلة الأولى المتمثلة بـ «فرنجية – سلام» قبل الانتقال إلى السلة الثانية المتمثّلة بالضمانات، وأن يحدّدوا عدد «السلات» التي سيشملها الاتفاق النهائي. كما كان مفترضاً أن يستقبلوا المرشح سليمان فرنجية بموافقة الرياض على السلّة الأولى، مع شروط في ما يخص سلة ثانية. إلا أنهم آثروا القفز فوق السلة الأولى إلى «بازار» مفتوح، تتجاوز فيه المبادرة الفرنسية المسار المنطقي العلمي لأي مفاوضات، لتدخل في دهاليز لبنانية لم يخرج ملف منها سالماً منذ عام 2005. في ظل اعتقاد الرياض بأنها انتزعت في السلة الأولى مكسباً يتمثل برئاسة الحكومة، ويمكن أن تنتزع في الثانية مكسباً ثانياً وثالثاً، قبل أن توحي بأي موقف إيجابي. وهو ما يوحي بالسلبية، لكنها سلبية يمكن أن تتحول إلى إيجابية إذا ما أعاد الفرنسي ترتيب أوراقه ليحدد بنص مكتوب مضمون اتفاق حقيقي جديد يمكن أن يجمع الداخل والخارج
المبدأ الإيراني ثابت وراسخ: فصل الملفات. لا يمكن التقدم في ملف على حساب التراجع في آخر. هذا مبدأ إيراني عام، يوازيه مبدأ عالمي عام آخر هو الانطلاق في التسوية من تحديد موضوعيّ لقوة كل من المتفاوضين، بعيداً من رغباتهما وأحلامهما وطموحاتهما. في ظل فصل المسارات، لا يعود ممكناً التعويل على إعطاء السعودية في اليمن مثلاً والأخذ منها في لبنان أو العكس، وتصبح التسوية، سواء في اليمن أو لبنان، رهن موازين القوى في كل من البلدين. هذا ما انطلقت منه الديبلوماسية الفرنسية فعلاً حين تصرفت على أساس موازين القوى الحقيقية: فريق مشتت غير مرئي بدّد الغرب والخليج ثروات هائلة على محاولة تعويمه، وفريق مرئيّ متماسك تجاوز كل الحروب التي شنت عليه، لكنه يواجه أزمة اقتصادية واجتماعية ضخمة قد تدفعه إلى تقديم تنازلات سياسية أو بعض مما راكمه من مكاسب سياسية، للتخفيف من حدّة الأزمة، والتقاط الأنفاس بعد عقدين من المواجهات، وبناء ثقة مع قوة دولية كفرنسا لها حضورها في أوروبا.
الفرنسيون، منذ أواسط التسعينيات، آثروا في مقاربتهم للملف اللبناني، الابتعاد عن «الثوابت» والتعامل مع «الأقوى»، بعيداً من «الطائفة المدلّلة» والزعيم الحليف الذي لا يمكن استبداله. وهم لم يسألوا عن أوضاع المسيحيين وموقفهم حين تبنى الرئيس جاك شيراك رئيس الوزراء اللبنانيّ الراحل رفيق الحريري، ولا حين رعوا الاتفاق الرباعي عام 2005 من دون أي اعتبار للمسيحيين، ولا هم يفعلون ذلك اليوم. وعلى رغم الكره الكبير للعونيين في إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون، بحكم العلاقة الوطيدة التي تربط مستشاري الإليزيه بكل أقطاب الدولة اللبنانية العميقة، تردّد إدارة ماكرون، منذ سنتين، أمام الأميركيين والخليجيين ما يقوله الرئيس ميشال عون منذ عام 2006، بأن حزب الله حالة لبنانية كبيرة ومتجذرة لا يمكن القفز فوقها، وهو ما أثار أخيراً استياء أميركياً وسعودياً مما أصبح «دوراً فرنسياً مشبوهاً».
في ظل الليونة الإيرانية – السعودية، كانت ثمة قوة دولية يمكن الركون إلى واقعيتها للانطلاق في تسوية منطقية (يفترض تحصينها بإخراج يتسع للهواجس المسيحية بالحفاظ على الشراكة والتمثيل الصحيح وغيرهما). لكن ما سُرِّب ديبلوماسياً بعد زيارة فرنجية إلى باريس يوحي بتخلٍ فرنسيّ عن هذا الدور الموزون الذي يمكن للفرنسيين لعبه، والانتقال من الضغط على السعوديين للقبول بالسلة الأولى التي قبل بها الحزب، إلى الضغط على الحزب للقبول بسلّة ثانية لا ضمانات حول الموقف السعودي فيها. وتحت عنوان الضمانات، تطلب باريس من حزب الله أن يسلم أمره العسكريّ لحكومة يرأسها نواف سلام ضمن ما يوصف بالاستراتيجية الدفاعية، و«التوقيع على بياض» لصندوق النقد الدولي وتنفيذ أوامره بطرد ثلثي موظفي القطاع العام، والقبول باستبدال الموظف الأميركي «المحروق» في حاكمية مصرف لبنان بموظف أميركي «مهفهف» جديد، وصولاً إلى استدراج مواقف توحي بأن هناك غطاء سياسياً يمنع الجيش من القيام بواجباته سواء على الحدود اللبنانية – السورية أو في المطار والمرفأ، إضافة إلى طلب ضمانة مضحكة بإعادة عقارب الزمن الحكومي إلى ما قبل عام 2009 لجهة إعطاء الحزب وجميع حلفائه أقل من ثلث الوزراء في الحكومة. وذهبت الصحف السعودية أبعد من ذلك، في تأكيدها على طلب الإليزيه من الرئيس العتيد تعهداً بـ«مداورة» الوزارات، وتعهد الطائفة الشيعية بالتنازل عن وزارة المال.
إذاً، تضمّنت السلة الأولى رئاسة مقابل رئاسة، فيما تتضمن الثانية طلبات من طرف واحد، وكأن هناك فريقاً سجّل انتصاراً ناجزاً وآخر مصاباً بهزيمة نكراء يفترض أن يوقع بعدها وثيقة استسلام، ما يدفع إلى القول إن مجرد نقل الإليزيه طرحاً كهذا يشكل سقوطاً للديبلوماسية الفرنسية. كما تخطئ السعودية في اعتقادها بأن في انفتاح حزب الله على طرح السلة الفرنسية الأولى وليونته ضعفاً. لا شك في أن الحزب يريد حلاً داخلياً وخارجياً يريح البلد ويعتبر أن التسوية خياره الأول، لكن قد يكون لديه خيار ثانٍ وثالث لإراحة البلد في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، فيما لا تملك السعودية – حتى اليوم – سوى خيار واحد للعودة السياسية الرسمية إلى البلد وهي السلّة الفرنسية الأولى. وعليه فإن اعتقاد السعوديين أنهم وضعوا رئاسة الحكومة في جيبهم من دون أن يسلفوا الفرنسيين أي موقف أو التزام بشأن رئاسة الجمهورية، ويمكنهم الانتقال للحصول على تعهدات بشأن ثلثي الوزراء والإذعان لشروط صندوق النقد والاستراتيجية الدفاعية وتسليم المرافق العامة للقيادة الوسطى في الجيش الأميركي قبل تقديم أي تعهد بشأن رئاسة الجمهورية هو مجرد مراهقة سياسية وقع الفرنسيون في فخها.
علماً أنه حتى لو كانت الأجوبة على هذه «المستحيلات» إيجابية، فإن السعوديين سيطلبون أكثر، ما يقود إلى القول إن باريس انتقلت تحت الضغط الأميركيّ – السعوديّ من لعب دور مسؤول وموزون، إلى مطالبة الحزب بديبلوماسية مهذبة بالاستسلام الكامل، وأن يقدم طواعية كل ما كان يحلم الأميركيون والسعوديون بانتزاعه منه بالقوة. ولن يكون الحزب الخاسر الأكبر في ظل هذا الطرح، ولا السعودية، إنما الديبلوماسية الفرنسية من جديد. ويفترض بهذه الديبلوماسية أن تحدد اليوم، في نص مكتوب، ما إذا كانت لديها مبادرة شاملة وكاملة تتجاوز سلة الرئاستين، لتجمع الضمانات من الجهتين، وهو ما لا توجد أرضية لطرحه أو مناقشته اليوم، ويبدو غريباً جداً أن تعمد ديبلوماسية عريقة إلى خوض غماره من جانب واحد كما فعل قصر الإليزيه أخيراً. وهو ما يدفع إلى القول إن التعاطي الفرنسي في الملف اللبناني أوحى بنضج ديبلوماسي لم يسجل للفرنسيين في المفاوضات الغربية مع إيران، قبل أن يتبين أخيراً أن «عقلية التذاكي» التي حكمت الموقف الفرنسي في فيينا تتحكم في موقف الإليزيه المستجد من الملف اللبنانيّ أيضاً.