ليس حدثاً عادياً لجوء لبنان إلى صندوق النقد الدولي. هو فاتحةٌ لتَحوُّل عميق، سيتخذ أبعاداً اجتماعية وسياسية توازي البُعد المالي- الاقتصادي. فكيف سيحصِّن لبنان نفسه ويحقِّق التحوُّل الآمن، الانزلاقي، تجنّباً لصدمةٍ خطرة؟
حتى الآن يبدو لبنان الرسمي «مُكابراً». هو يقول إنّه يطلب من صندوق النقد «مساعدةً تقنية» فقط. ولكن، من الخرافة أن نستودع رأسَنا أيَّ «صندوق» ونبقى خارجه على قيد الحياة. ولذلك، على اللبنانيين أن يترقَّبوا رحلة طويلة وشائكة، وبعدها: أي لبنان سيكون…غداً وبعد غد؟
بالإستناد إلى النماذج الكثيرة التي تولّى فيها صندوق النقد إنقاذ دولٍ بلغت وضعيات مماثلة، يمكن القول إنّ إجراءات الإصلاح والشفافية التي ستُفرَض على لبنان لا يمكن إلاّ أن تكشف التجاوزات والفشل في داخل الطبقة السياسية، وستنتزع من يدها أوراق قوة كانت تستخدمها للاستمرار، فتنكشف وتصاب بالضعف، ما يهيئ الأرضية لتغييرها.
ويُرجَّح أن يكون هذا التغيير واسع النطاق، بل إنّه سيؤدي إلى وضع مجمل نظام الطائف على بساط البحث. فجذور الفساد الإداري والمالي والاقتصادي سياسية وطائفية – مذهبية في الدرجة الأولى.
وتغيير المعادلات السياسية وتوازنات السلطة القائمة حالياً في بلدٍ كلبنان لا تقتصر مفاعيله على الداخل. فالقوى السياسية في لبنان لا تمثل فقط جماهيرها وطوائفها، بل أيضاً المحاور الإقليمية والدولية. وعندما تهتزُّ إحدى هذه القوى يهتزّ تمثيل المحاور الخارجية أيضاً، فيتحرّك كل محور للدفاع عن مصالحه.
وليس سرّاً أنّ التوازن غالبٌ اليوم لمصلحة المحور الإيراني، وأنّ الولايات المتحدة وحلفاءها العرب يضغطون لفكّ ارتباط لبنان بهذا المحور. ولذلك، وفيما الشارع اللبناني ينتفض بشراسة على التركيبة السياسية الفاسدة، تتنازع المحاور الخارجية على القرار في السلطة.
فـ«حزب الله» وحلفاؤه يقاتلون بشراسة للحفاظ على أرجحية لهم في السلطة، فيما يضغط الأميركيون لئلا يبقى لإيران نفوذ يمتدّ عبر العراق وسوريا، ولا منفذ على المتوسط وحقول الغاز والنفط، ولا إطلالةٌ منه على أوروبا ولا تماسّ مع إسرائيل. ولذلك، تتداخل المعارك وتزيد المشهد اللبناني تعقيداً.
يعني ذلك أنّ إيران ستكون في أقصى الحذر تجاه الإصلاح الذي سيشرف عليه صندوق النقد الدولي. وستواكب ذلك بالتأكيد محاولات لصدِّ الشارع الغاضب. وربما حاول الرئيس ميشال عون أن يستبق شيئاً من المرحلة المقبلة بالحديث عن «الراديكاليين» الذين يصرّون على اعتماد أسلوب التصعيد في الشارع، والذين سيعترضون على الإجراءات الموجعة التي سيتمّ فرضُها. لكن الأخطر هو احتمال أن تلجأ قوى السلطة إلى وضع «شارع مقابل شارع» بهدف الإحباط والتغطية.
في هذه الحال، سيكون التحوُّل السياسي والاجتماعي قد دخل وضعية الخطر بين فكّي الكماشة إيران والولايات المتحدة، أي بالصدمة الموجعة بدل الانزلاق الآمن. وهذا يَفترض أن تكون للبنان مصلحة للاستعانة بوسيط يوفّر انتقالاً أكثر هدوءاً.
ويعتقد ديبلوماسيون في بيروت، أنّ هناك فرصة جدّية لتحقيق هذا الضمان من خلال الشراكة مع الأوروبيين. وهنا تبرز فرنسا خصوصاً في اعتبارها الطرف الأقدر على إقامة تماسّ مع الجميع. فحتى اليوم، ما زال الفرنسيون يحتفظون برصيد لدى إيران وروسيا والصين شرقاً، والولايات المتحدة غرباً.
وفي لبنان، اعتاد الفرنسيون التكفل بدور الرعاية. وكانوا أصحاب المبادرة في تسوية الأزمة التي نجمت عن استقالة الرئيس سعد الحريري في الرياض، خريف 2017. وطبعاً، هم تولوا رعاية مؤتمر «سيدر» عام 2018.
وانطلاقاً من هذا الرصيد، تتشارك إدارة الرئيس دونالد ترامب – على مستوى المسؤولين في الخارجية – مع باريس ولندن في اللجنة الثلاثية المكلفة معالجة الوضع في لبنان، على رغم إخفاقها في المعالجة منذ 17 تشرين الأول 2019.
كما أنّ الفرنسيين هم الطرف الغربي الوحيد الذي لم يقطع اتصالاته بكوادر «حزب الله» الرفيعي المستوى، حتى اليوم. ويتردّد أنّ الألمان حافظوا على وضعية مماثلة، لكن الاتصالات جُمّدت في الفترة الأخيرة.
لذلك، يعتقد الديبلوماسيون الذين يتابعون تطوّر المأزق الداخلي، أنّ هناك فرصة لدخول الفرنسيين على الخط، لا لانتزاع أي دور تضطلع به القوى الناشطة حالياً أو ذات النفوذ في لبنان، ولا سيما منها الولايات المتحدة، بل لمواكبة الحراك الجاري نحو التسوية.
فباريس يمكن أن تكون ضماناً للحل وعاملاً مساعداً لإمراره بأقل ما يمكن من إشكالات، خصوصاً أنّها تنسّق الخطوات مع سائر القوى الدولية، وأنّ المعنيين في لبنان «استسلموا»، ولو شكلاً، لضرورات الإصلاح، وبالحد الأدنى، بعدما ماطلوا طويلاً في الاستجابة للدعوات الفرنسية، منذ ما قبل مؤتمر «سيدر».
ويتردّد في بعض الأوساط، أنّ هناك 4 مهمّات ستطرح نفسها بإلحاح في المرحلة المقبلة التي تفرض حواراً لبنانياً – لبنانياً جريئاً ومعمَّقاً بضمان دولي يحظى بثقةٍ جامعة، إذ لا يمكن البناء على أي حلّ للمأزق القائم بوجوهه المالية والنقدية والاقتصادية والسياسية من دون إجماع وطني. ويمكن فرنسا أن تؤدي دوراً في جمع اللبنانيين على طاولة حوار تُعقد إما في بيروت وإما في فرنسا، على غرار حوار سان كلو 2007. والمهمّات هي:
1- النقاش حول الخلل في الدستور المنبثق من «إتفاق الطائف» وتصحيحه. ففي التطبيق، تحوَّل الدستور وجهة نظر. أما في النصّ فلا حصر للثغرات. ومنها مثلاً بقاء موقع رئاسة الجمهورية شاغراً لسنة أو اثنتين أو أكثر، من دون أن يقدّم النص الدستوري مخرجاً من الأزمة. وهذا ما يصحّ تطبيقه أيضاً في التأخير المتمادي في التكليف والتأليف عند كل حكومة. وكذلك، هناك اختلالات في ممارسة الصلاحيات داخل المؤسستين التنفيذية والتشريعية يجب إنهاؤها.
2- إعادة هيكلة القطاع المصرفي.
3- إعادة هيكلة الواقع النقدي لمصرف لبنان.
4- إعادة هيكلة النظام القضائي.
الديبلوماسيون يسجّلون أنّ الدور الفرنسي في لبنان تراجع في الفترة الأخيرة، إلى حدّ التلاشي. وفي رأي بعضهم، أنّ من أسباب ذلك هو أنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يسعى إجمالاً إلى «القطاف السريع» في سياسته الخارجية.
لكن هؤلاء يعتقدون أنّ لبنان يبقى حتى اليوم منصّة مثالية لفرنسا في الشرق الأوسط، ولا يضاهيه في ذلك أي بلد آخر. وعلى الأرجح، يمكن للفرنسيين أن يوفّروا حضوراً لهم داخل شبكة المصالح الإقليمية والدولية، حيث ستنطلق الورشة المنتظرة عاجلاً أو آجلاً.
وحتى الآن، الفرنسيون يتمتعون أكثر من سواهم بالقدرة على خرق الحدود بين الدول المتنازعة: من الدول المتشابكة حول الغاز والنفط في المتوسط، إلى استثمارات سوريا والعراق والخليج العربي، إلى طموحات إيران وتركيا وإسرائيل.
وفي هذا كله، يصلح لبنان منصة انطلاق مثالية لفرنسا، لأنّها لن تشكّل منافساً لأحد. وعلى العكس، هي ستقدِّم خدمة يحتاج إليها الجميع في غرف العمليات: تقليص مستويات الوجع في الجراحات الكبرى. وهذه الجراحات منتظرة في لبنان والشرق الأوسط كله. وعادةً، الأتعاب تكون مدفوعة من حصّة الأرباح