مع بداية الحرب السورية، علت لهجة تيار المستقبل موحية بانتصار قريب يُتوّج لبنانيا. اليوم تظهر اشارات عن انتصار مبكر بعدما بدأت مصارف لبنانية تطبق القانون الاميركي ضد حزب الله
يؤشر البيان الاخير لكتلة المستقبل وتركيزه المطول على وضع المصارف وضرورة تقيدها بالقانون الاميركي بفرض عقوبات على حزب الله وعدد من مؤسساته، وتعامله مع التفجير الذي استهدف بنك لبنان والمهجر، على الاتجاه الداخلي الذي تسلكه هذه الازمة الخطرة بين حدين: فريق يدافع عن القرار الاميركي تحت عنوان ان القانون نافذ ولا قدرة للبنان على مواجهته، وفريق معني به مباشرة يعارضه ويذهب الى التشدد في رفضه.
ورغم ان تيار المستقبل يعد نفسه دوما وصيا على الوضع المصرفي والمالي من دون اي لبس، وانه من الطبيعي ان يكون في طليعة الذين يدافعون عن القرار الاميركي، الا ان التعامل اليوم مع قضية حساسة من هذا النوع، يتخطى واقع رعايته للوضع المالي، كما الاصطفاف السياسي التقليدي. لذا لا يمكن وفق ذلك مقاربة مخاطر الازمة الناشئة وسلبياتها اسوة بالازمات السياسية اليومية الاخرى.
ثمة من يذكّر اليوم بأحداث عام 2005 وما تلاها و7 أيار وتداعيات كل منهما، مع التفجيرات المتلاحقة والاغتيالات. لكن في المقابل، هناك أيضاً من يذكّر بما حصل مع بداية الحرب السورية قبل سنوات، وكيفية تعامل تيار المستقبل مع استخلاص نتائج سريعة للحرب ونتائجها.
تصرف تيار المستقبل على قاعدة ان المعارضة السورية ستطيح الرئيس السوري بشار الاسد خلال اسابيع او اشهر الى الحد الاقصى، وان التدخل السعودي والاميركي والاوروبي سيساهم في انفراط عقد النظام السوري والمجيء بحكم او بحكومة تتماشى مع الخط الممتد من بيروت الى السعودية. في تلك المرحلة بكّر تيار المستقبل في قطف «نشوة الانتصار السوري»، وتعامل لبنانيا وفق هذا الاستعجال، الذي لا يزال النائب وليد جنبلاط يذكر به مرة تلو اخرى. علما ان حزب الله لم يتدخل حينها في الحرب السورية في ايامها وشهورها الاولى، وان نشوة الانتصار المستقبلي، في ذلك الوقت لم تكن متكافئة مع وضع حزب الله وتدخله لاحقا في حرب سوريا.
بطبيعة الحال لم تعد سوريا كما كانت عليه حالها قبل سنوات، ولا النظام السوري عاد قادرا على التحكم في الدولة التي تفككت عناصرها وتهجر اهلها وتشظت محافظاتها، وتدخلت فيها ايران وروسيا والتحالف العربي والغربي على السواء. لكن استعجال المستقبل وتوقعه نتيجة سريعة لحرب سوريا، لم يؤديا الى اي ترجمة عملية في بيروت. لا بل إن مسار الحرب السورية وتشعباتها، جعلا المستقبل ينفذ تراجعاً ــ سمّي احيانا استراتيجيا واحيانا تكتيكا ــ عن تدخله في الوضع السوري والتصرف وكأنه حدث داخلي محض. ليعود الى التعامل واقعيا مع الحالة اللبنانية كما هي عليه الان بكل اطيافها، بصرف النظر عن العوامل السورية او السعودية، ولا سيما مع حزب الله ومشاركته في الحكومة والحوار الثنائي بينهما، وصولا الى عودة الرئيس سعد الحريري الى بيروت.
مع القانون الاميركي القاضي بفرض عقوبات على حزب الله، بدا ان تيار المستقبل يستعيد ملامح تلك النشوة القديمة، وعادت لهجة الانتصار لتتحكم في ادبياته وكلام قادته والدائرين في فلكه. ثمة مراهنة كبيرة على تحول سياسي كبير ــ بحجم صدور القانون الاميركي وتطبيقاته لبنانيا ــ يساعد على تنفيذ ما عجزت عنه الحرب السورية وما عجز عنه المستقبل والعقوبات الخليجية؛ ما يجعل من السهل تضييق الخناق على حزب الله، دوليا ولبنانيا بطبيعة الحال عبر بعض المصارف التي تتعامل مع القانون الاميركي بغير ما هو عليه، وبخلاف التعميم الصادر عن مصرف لبنان. هناك نقاشات تدور في المستقبل والمحيطين به تتحدث عن اهمية هذا القانون وتوقع نتائجه السريعة من دون اي مقاربة لما يمكن ان يكون عليه رد فعل حزب الله.
لكن خطورة الرهان المستقبلي الذي يكبر يوميا على القانون الاميركي، هي في الخشية من نتائجه وارتداداته تماما كما حصل مع الرهان على حرب سوريا، رغم اختلاف الظروف والمعطيات. فحزب الله يدافع اليوم عن وجوده في سوريا ولبنان ودول الخليج والمنطقة والعالم حيث يواجه عند كل تفجير او حدث امني بصدور اتهامات ضده والتضييق عليه اقليميا ودوليا، ولا يتوقع احد انه يمكن ان يتغاضى عن كل ذلك. لكن نقاش المستقبل تخطى هذا العامل الاساسي، ليركز على ضرورة «تسليم» الحزب طوعا بالقانون الاميركي.
لكن الخطورة الاهم تتعدى العلاقة بين المستقبل وحزب الله. فالنقاشات السياسية والمالية تنحصر اليوم فحسب بتأثر حزب الله بالقانون، ولا تدور حول مستقبل لبنان وارتداد القانون وتداعياته على نظامه ودوره ووضعه وتأثر الساحة الداخلية بالتجاذبات بين المدافعين عن القانون والرافضين له. وكلما غالى المعنيون، المستقبل وحزب الله وحتى المصارف، في توقعاتهم وسياستهم ورهاناتهم، دخل الوضع اللبناني في مأزق جديد وفي متاهات من الصعب الخروج منها. فالمؤسسات تكاد تنهار والوضع بدا ينفلش في صورة سريعة، في غفلة عن القوى السياسية، فيما تنشغل دول اقليمية وغربية عنا بهمومها وملفاتها المتشعبة.