قبل حرب غزة، انحصر السجال حول وضع قيادة الجيش والتمديد للعماد جوزف عون بالرئاسيات. في الأسبوعين الأخيرين، مع بدء الكلام عن تجديد القرار 1701، أصبح لنقاش الملف بُعدٌ آخر، يتصل بتفعيل القرار الدولي
في المفاوضات التي سبقت القرار 1701، كان التعويل للمرة الأولى على قدرة الجيش اللبناني على الانتشار جنوباً وتنفيذ القرار الدولي. وكان النص واضحاً في تحميل الجيش، للمرة الأولى، مسؤولية الانتشار جنوبيّ الليطاني و«عبء» تطبيق ما يتضمّنه النص لجهة إخلاء المنطقة من السلاح والمسلّحين.منذ عام 2006، عدّ انتشار الجيش جنوبيّ الليطاني حدثاً وطنياً، ولو أن المهمّة ترجمت أولاً وآخراً بعدم الاصطدام مع حزب الله، وبالتنسيق مع القوات الدولية. تباعاً، لم يعد انتشار الجيش يشكل على مدى سنوات لاحقة استثناءً، فيما تضاعفت قوة حزب الله في منطقة انتشاره. هذه العلاقة التي تعدّت ثلاثية «جيش وشعب ومقاومة» عكست، في مكان دقيق، حجم التواصل الجيد بين الطرفين، الى حد أن الجيش، منذ تظاهرات 17 تشرين، ولاحقاً مع الحاجة إليه في الداخل وفي مكافحة التنظيمات الأصولية، سحب تباعاً جنوده وخفّف وجوده جنوبيّ الليطاني الى الحد الأدنى، واستمر الأمر على ما هو عليه حتى اليوم، إذ يتراوح عديد الجيش في تلك المنطقة حالياً بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف جندي، بعدما بلغ في حدّه الأقصى بعد سريان تنفيذ الـ 1701 عشرة آلاف جندي.
مع بدء البحث في ما هو مصير قيادة الجيش في العاشر من كانون الثاني المقبل، لم تطرح أي صلة للتعيين أو التمديد بالجنوب. فقد كان الهمّ الرئاسي طاغياً في مقاربة ملف التمديد، ومعالجة الثغَر القانونية والدستورية في موضوع التعيين والخلافات السياسية بين القوى المعنية، رغم كل ما كان يصل من رسائل غربية حول وضع الجيش وضرورة استمراره متماسكاً للحفاظ على استقرار لبنان والتعامل مع استحقاق 10 كانون الثاني على أنه يعطي صورة عما يرسم للجيش محلياً وخارجياً. لكن حرب غزة قلبت كل المعايير، وتغيّرت معها تباعاً مقاربة وضع لبنان ككل، والجنوب معه، بعد عمليات القصف المتبادلة عند الحدود الجنوبية. فصار ملف قيادة الجيش في صلب تبعات ما يحصل فيها ومستقبل المفاوضات التي تجرى دولياً حول حماس وحزب الله، ولم يعد مجرد استحقاق بين الاستحقاقات التي تصيب مراكز الفئة الأولى تباعاً.
وبعد وضعِ تفعيل القرار 1701 على الطاولة وتحوّلِه إلى عنوان أول في مهمات الموفدين الغربيين الى بيروت، بوشر بحث مستفيض حول المسؤولية المحددة بالنص وليس بالاجتهاد، عن دور حيوي للجيش في تنفيذ مهماته. وما حصل جنوباً منذ 7 تشرين الأول، يعطي لما هو مطلوب من الجيش مجدداً طابعاً آخر، ويضيف الى كل المفاوضات المتوقعة عناصر مستجدّة. ولا سيما في ضوء احتمالات تصاعدية للمفاوضات، تضع الجيش أمام استحقاقات على قدر من الأهمية.
من هنا، استجدّت عوامل مغايرة الى جانب تفعيل استحقاق رئاسة الجمهورية كحاجة ملحّة في ما يمرّ به لبنان من أخطار، في تعامل القوى الخارجية مع مصير قيادة الجيش. وهذا لا يعني حكماً المطالبة بالتمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون. لكن بطبيعة الحال، يتحوّل الكلام عن وضع الجيش في المفاوضات الجارية مفصلياً، كقيادة وكقرار في أي عملية مستجدة مستقبلياً. وهي بدأت تأخذ منحى آخر، يتعلق بهرمية المؤسسة ومن ستكون له الكلمة والإمرة في القيادة وتنفيذ ما هو مطلوب والتنسيق مع الجهات الخارجية والمحلية المعنية. فصياغة ترجمة القرار الدولي في أيّ مفاوضات لها طابع سياسي، لكنّ لها جانباً عملانياً يتعلق بالواقع اللوجستي والتنفيذي. وهذا من شأنه أن يعطي النقاش حول مستقبل قيادة الجيش تمديداً أو تعييناً أو تكليفاً أو ضمن أي إطار إداري آخر، بعداً أوسع مما كان يدور قبل استعادة البحث في القرار الدولي. ولم يكن ذلك في حسبان أيّ من القوى السياسية التي كانت تناقشه ضمن الأطر المحلية الطابع. فضلاً عن أن أي بحث جدّي يتعلق بقيادة الجيش على مستوى خارجي، سيشمل في طريقه الحاجة الى المؤسسة، ليس للحفاظ على استقرار لبنان فحسب، وإنما كذلك في ما يمكن أن يكون مطلوباً منه في المرحلة المقبلة. وهذا يعطي القوى السياسية المحلية، وعلى رأسها حزب الله المعني مباشرة بما يدور حول القرار الدولي وتبعات تفعيله، نظرة جديدة لما سيكون عليه موقع القيادة والجيش في المرحلة المقبلة. ومع التسليم بأن البحث السياسي لمستجدات القرار الدولي ينحصر بالحكومة، إلا أن للحزب مشاغل أخرى تتعلق بالميدان الجنوبي، وبما سيكون عليه وضعه من الآن وصاعداً، إضافة الى واقعه كقوة عسكرية أظهرت بوضوح انتشارها وعملها في الجنوب. فإذا كان التجديد السنوي للقوة الدولية قد ترافق في السنتين الأخيرتين مع إشكالات داخلية وخارجية، ولم يكن من تبعات داخلية بالمعنى المباشر على وضع الجيش، فكيف يمكن أن يكون عليه الوضع مع تلازم مسارَي مستقبل قيادة الجيش وتفعيل القرار 1701. التحدّي من الآن وصاعداً سيكون في إعطاء هذا الاستحقاق أهمية توازي في خلفياته وفي تداعياته المستقبلية النقاش الجدّي لما سيكتب للبنان بعد حرب غزة.