جرت هذه الواقعة في آخر سنة 1951، عندما كان كميل شمعون وعقيلته زلفاء يزوران القاهرة.
وفي إحدى المناسبات، لبيا دعوة توفيق باشا مفرج وزوجته لمياء الى مأدبة غداء أقيمت في «نادي الجزيرة» حضرها عدد من أصدقاء وصديقات الطرفين. وصدف وجود السيدة فائزة طرابلسي بين الحضور، أرملة الأمير العراقي عبدالإله، الوصي على العرش في عهد الملك غازي.
ويبدو أن فائزة كانت معروفة لدى أعضاء نادي طبقة أثرياء مصر بأنها أفضل مَن يقرأ الفنجان. لذلك أنهى كميل شمعون قهوته وطلب منها قراءة بخته في فنجانه.
ويتذكر صاحب الدعوة أن كميل شمعون كان يصغي بفضول ظاهر الى كل عبارة تقولها «قارئة الفنجان» فائزة طرابلسي. ومختصر ما ذكرته في حينه، إن الحظ سيبتسم له بعد رجوعه الى لبنان ليحظى بأعلى المراتب. لكنها صمتت فجأة لتشير اليه بسبابتها وتكمل: إن قعر فنجانك مليء بالدم!
ثم جاءت الأحداث لتثبت أن آخر سنوات عهد الرئيس كميل شمعون كانت غارقة في دماء ثورة 1958.
ولما اندلعت تلك الثورة، تذكر ضيوف الباشا كلام فائزة، وتساءلوا هل لعبت الصدف دوراً خفياً في تحقيق دلالات الإشارات الظاهرة في فنجان كميل شمعون… أم ان فائزة حرصت على ترجمة إشارات القهوة بما يرضي مزاج الحضور؟ّ!
وفي مطلق الأحوال، فإن الثورة اللبنانية سنة 1958 لم تكن أكثر من «بروفة» أو تمرين مسبق إنفجر سنة 1975 بشكل حرب أهلية استمرت خمس عشرة سنة. وكان من الطبيعي أن تنتهي تلك الحرب بإسقاط الطائفة المارونية عن عرش امتيازاتها، تماماً مثلما أدى إنقلاب عبدالكريم قاسم في العراق سنة 1958 الى إسقاط النظام الملكي بواسطة حمام من الدم غرقت فيه حاشية الملك، وأعضاء حكومة نوري السعيد.
وكما حفرت الثورة اللبنانية في وحدة الميثاق الوطني شرخاً طائفياً عميقاً، هكذا حفر إنقلاب عبدالكريم قاسم في المجتمع العراقي ندوباً قومية وطائفية ومذهبية فشل «حزب البعث» من بعده في معالجتها.
وفي المرحلة الثانية من حكم «حزب البعث» في العراق، حاول صدام حسين ترجمة انتصاره على انتحاريي الثورة الايرانية بتحجيم نفوذ الطائفة الشيعية. ولقد عاقبته الولايات المتحدة على شراهته السياسية التي ظهرت في غزو الكويت، فإذا بها تغزو بلاده وتدمر نظامه وتجبره على الاختباء في جحر مموّه. ولقد اكتشفت القوات الاميركية مكان تواريه بفضل جائزة قدرها 750 ألف دولار. وبعد مرور ثلاث سنوات على اعتقاله، أعدِم شنقاً في ثكنة تابعة للاستخبارات العسكرية، يوم 30 كانون الأول (ديسمبر) سنة 2006.
عقب انقضاء أقل من خمس عشرة سنة على إعدام صدام حسين، جدد أنصاره في الجيش والحزب دعوته السابقة الى محاربة الاميركيين والشيعة. ومع أن غالبية الضباط كانوا من العلمانيين، إلا أن أبو بكر البغدادي حرص على إظهار التنظيم بمظهر حركة «إبن تيمية»، أحد فقهاء المذهب الحنبلي. ولقد اعترف البغدادي – وإسمه الحقيقي ابراهيم عواد البدري – بأن اعتقاله على أيدي ضباط اميركيين وسجنه لمدة سنتين تقريباً، خلق في نفسه مشاعر الانتقام عبّر عنها بتأسيس نظام جهادي سنّي اختارت مرتكزاته الجغرافية في العراق وسورية. وبسبب العنف المدوي الذي مارسته عناصر «الدولة الإسلامية» في مختلف القارات، خصوصاً في اوروبا، قرر المجتمع الدولي استئصال شأفة دولة الإرهاب.
بعد نحو ثلاث سنوات من القتال الشرس ضد التنظيم الذي احتل أجزاء واسعة من أربع محافظات عراقية، تمكنت القوات النظامية من كسب الحرب ضد «داعش.» وكان ذلك في التاسع من كانون الأول (ديسمبر) 2017. وعليه قرر رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي إعلان هذا اليوم عطلة رسمية، وطلب من جميع الحكومات ضرورة التقيد بتنفيذ هذا الإعلان.
والمؤسف حقاً أن تكون «الدولة الإسلامية» قد نقلت مركزها الى أفغانستان، أي الى المكان الذي انطلقت منه قيادة «القاعدة» بإشراف مؤسسها أسامة بن لادن.
وتؤكد المعلومات أن القوة العسكرية الاميركية التي خدمت في أفغانستان أثناء ولاية الرئيس السابق باراك اوباما لم يزد عددها عن عشرة آلاف مستشار ومدرب وجندي. وبسبب الاعتداءات المتواصلة التي تعرضوا لها، قرر اوباما سحب كل القوات في آخر سنة 2016.
هذا الأسبوع، أعلن الرئيس دونالد ترامب سحب القوات المؤلفة من ألفي جندي من سورية. وقبل أن تمر فترة الاختبار أطل ترامب وزوجته من العراق بحجة مشاركة الجنود احتفالات عيدي الميلاد ورأس السنة.
ورأى المراقبون في هذه الإطلالة سلسلة تحديات تنتظر القوات الاميركية في العراق. ويأتي في مقدمها النفوذ الايراني المتمثل بمئة وخمسين ألف مقاتل ينتمون الى «الحشد الشعبي.» وتضم فصائل الحشد مقاتلين ينتمون الى أحزاب شيعية، ويتلقون الأسلحة والتدريب من ايران. وبسبب الدور المتقدم الذي لعبه هذا «الحشد» ضد إرهاب «داعش»، قرر رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي إضفاء الصبغة الرسمية على تلك الميليشيا، ومعاملتها كقوات عراقية. وكان من الطبيعي أن يثير قرار رئيس الوزراء إستياء المكونات الأخرى مثل وحدات البيشمركة الكردية و»الحشد الوطني» السنّي. ولم تتردد واشنطن في الإعراب عن معارضتها لتصرفات «الحشد الشعبي»، الممثل الخفي للنفوذ الايراني في العراق. وهو قرار اتخذته طهران بعد هزيمتها أمام قوات صدام حسين، بحيث أنها منعت بغداد من أن تكون حرة ومستقلة.
ماذا تخبئ الأحداث الآتية الى سورية بعد انسحاب ألفي جندي اميركي؟
لو أن هذا العمل قامت به روسيا أو ايران، فإنه كان ليثير بالتأكيد حركة اهتزاز عميقة، بسبب اعتماد النظام السوري على دعمهما المتواصل. إضافة الى ذلك فإن المبعوث الدولي الى سورية ستيفان دي ميستورا تحدث مرة عن أهمية 12 دولة خارجية منخرطة عملياً في الشأن السوري. وأكد أيضاً وجود 98 مجموعة مقاتلة بينها «داعش» و»النصرة»، إضافة الى جماعات مسلحة مثل «حزب الله» وايران، وثكنات عسكرية تضم 35 ألف جندي.
صحيفة «يديعوت احرونوت» الاسرائيلية تصرّ على التذكير بأن القمة التي نظمها الرئيس فلاديمير بوتين في سوتشي، لم يدعَ اليها الرئيس بشار الأسد. والسبب أن الرئيس الايراني حسن روحاني والرئيس التركي رجب طيب اردوغان تشاورا في احتمال إنقاذ النظام السوري من طريق تقسيم الدولة الى مناطق نفوذ.
وبخلاف موقف الأسد الذي يرى في الغزو التركي لشمال سورية تدخلاً معادياً فإن بوتين حاول إقناعه بأهمية دور أنقرة في مناطق الشمال. وفي هذا السياق، فإن لأردوغان نفوذاً قوياً على القوات المعارضة للأسد، مثل «الجيش السوري الحر» الذي يوجد في تركيا. وفي الوقت ذاته، ترى أنقرة في موسكو الحليف الوحيد الذي يمكنه المحافظة على مصالحها ضد الأكراد.
أما بالنسبة الى دور ايران في سورية، فإن الأسد مرتاح الى أداء «حزب الله» وسائر الفرق التي يتألف منها الجيش النظامي. لذلك أعلن أكثر من مرة أن مساحة النفوذ التي سيحصل عليها هي آتية من الايرانيين أو الروس. لهذا السبب ستبدأ موسكو مطلع السنة الجديدة خفض حجم قواتها، مع الإبقاء على قواتها المنتشرة على الساحل.
الوضع في لبنان حساس الى درجة الغليان سياسياً واقتصادياً، لأن «المريض» لا يحتمل عواصف الفوضى المنتقلة الى ربوعه من سورية. كما لا يحتمل حال الاستنفار التي أعلنتها اسرائيل بعد عثورها على أنفاق «حزب الله» على الحدود اللبنانية. لهذا السبب كثف الجيش الاسرائيلي عمليات التفتيش. وتم إبلاغ الأمم المتحدة عن موقع نفق خامس في الجانب اللبناني من الحدود.
تقول الصحف الاسرائيلية إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يريد استغلال المعركة الإعلامية ضد «حزب الله» بغرض إقامة سور جديد في النقاط المختلف عليها في مسار جدار الفصل.
لم يبقَ من فنجان القهوة سوى إشارات تتعلق بالقضية الفلسطينية التي تجاوز عمرها السبعين سنة.
ولقد اختصر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الحل العملي بعبارة واحدة: «ظهرنا للحائط، لا الشعب يرحمنا ولا التاريخ. وليس لنا من خيار سوى رفض القرارات الاميركية – الاسرائيلية… والانتظار سبعين سنة أخرى!»