الأربعاء 22 تشرين الثاني 2017. إنه يوم لا يمكن أن ينساه رئيس الحكومة سعد الحريري، ولا مناصرو تيار «المستقبل» طبعاً، ومعهم كثيرون من اللبنانيين، بينهم حتماً من لم يكونوا من الموالين لرئيس «المستقبل». حتى أنّ الحريري قال ذلك بنفسه عندما أطلّ على مؤيديه من «بيت الوسط».. «إنها لحظة لا يمكن أن أنساها في حياتي».
المدّ «المستقبلي» والشعبي الذي أمّ «بيت الحريري» الأربعاء كان جزءاً أساسياً من المشهد العريض ليوم 22 تشرين الثاني 2017، إذ من دونه كان المشهد ناقصاً، لا من حيث الشكل وحسب وإنما من حيث المضمون السياسي لتلك اللحظة، لحظة لقاء الحريري بمناصريه.
فإذا كانت العاطفة محرّكاً أساسياً لذلك اللقاء فإنّ السياسة كانت حاضرة فيه بقوة، مثلما حضرت في كل حركة الحريري منذ لحظة وصوله إلى بيروت ليل الثلاثاء، حتى قبل أن ينبس ببنت شفة.
فجمهور «المستقبل» الذي تقاطر بالآلاف إلى «الوسط» أكدّ المؤكدّ، وهو أنّ سعد الحريري ذو حيثية تمثيلية وشعبية. كما أكدّ هذا التقاطر – وهذا الأهم في اللحظة الحاضرة – أنّ «المستقبليين» يجدّدون تفويضهم لرئيسهم في سياسته للمرحلة المقبلة، وهي مرحلة جديدة، ليس على مستوى «المستقبل» وحسب إنما على مستوى لبنان أيضاً.
الحماسة والمحبة التي أظهرها الناس لسعد الحريري عند استقبالهم إياه في بيته، يفسّرها عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل» النائب السابق مصطفى علوش، بأنّها تعبير «عن الأمل بدولة مستقرة في غمرة الفوضى غير الخلاقة التي تعمّ المنطقة». وهي اعتراف من قبلهم بـ «المسؤوليات والتضحيات التي قدّمها لهم رفيق الحريري ومن بعده سعد الحريري».
كلمة الحريري من بيت الوسط، وإن طغى عليها الجانب العاطفي بطبيعة الحال، إلّا أنها لم تخلُ من الكلام والرسائل السياسية، ولعلّ أبرز هذه الرسائل هي التأكيد على شعار «لبنان أولاً» بما يعنيه تكراره والتشديد عليه في هذه اللحظة التي تتداخل فيها العوامل الإقليمية بالعوامل المحلية. كما أكدّ الحريري أن «المستقبل» سيبقى في «خط الدفاع عن لبنان وعن استقرار لبنان وعن عروبة لبنان»، وهذا كلام شكّل الخط البياني لكلّ تصريحات رئيس الحكومة منذ عودته إلى بيروت، وإن ورد على لسانه في صيغ كلامية مختلفة، وأمّا مؤداه السياسي فواحد ويمكن تلخيصه بالآتي: «حماية الاستقرار والنأي بالنفس».
ما قاله الحريري تلميحاً وباقتضاب أمام مناصريه في بين الوسط، فصّله إثر لقائه رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ثمّ عاد بيان تيار «المستقبل» أمس فأوضحه وأكد عليه. «النأي بالنفس»، هذا «المفهوم السياسي» اللبناني البحت، والذي شكّل العنوان السياسي الأبرز لكلّ المشهد اللبناني منذ اندلاع «الثورة» السورية في العام 2011، عاد ليكون في رأس جدول الأعمال السياسي في بيروت.
فمن قصر بعبدا حيث أكد الحريري، في صباح عيد الاستقلال، «التمسك باتفاق الطائف ومنطلقات الوفاق الوطني (…) ووجوب الالتزام بسياسة النأي بالنفس عن الحروب الإقليمية، وعن كل ما يسيء إلى الاستقرار والعلاقات مع الأشقاء العرب»، إلى عين التينة حيث قال رئيس «المستقبل» بعد لقائه رئيس مجلس النواب نبيه بري في مساء الإستقلال، أنّ «ما يهمني ألا يكون النأي بالنفس كلمة بل أن يكون فعلاً وعملاً»، وصولاً إلى «بيت الوسط» أمس، حيث ربط تيار «المستقبل» في بيانه، «التشاور» المرتقب بين القيادات اللبنانية، بـ «إعادة الاعتبار الى مفهوم إعادة النأي بالنفس عن الحروب والصراعات المحيطة»، كلّها محطّات ومواقف «مستقبلية» تتصدّر جدول أعمال التيار الأزرق في المرحلة المقبلة، والذي على أساسه حاز الحريري في «بيت الوسط» في أربعاء الإستقلال التفويض الشعبي والسياسي لخوض هذه المرحلة «الاستثنائية».
وبهذا المعنى، فإن «زمن التيار الأزرق» هو زمن «إعادة الاعتبار لمفهوم النأي بالنفس»، لا سيّما أنّ الالتزام بهذا المفهوم قولاً وفعلاً يؤدي تلقائياً إلى حماية الإستقرار الأمني والإقتصادي والمالي، كما يؤدّي أيضاً إلى صون علاقات لبنان بالدول العربية المتضررة من التدخلات الإقليمية وامتداداتها في شؤونها. وعليه، يكون التزام النأي بالنفس ليس على الخلافات العربية ـ العربية فحسب وإنمّا عن الخلافات الإقليمية أيضاَ، وذلك بما تقتضيه عروبة لبنان المنصوص عنها في «اتفاق الطائف»، كما حماية الاستقرار، وصون علاقات لبنان العربية، كلّها عناوين مترابطة ولا يمكن فصلها و«أخذها بالمفرق»، لا سيّما في اللحظة الإقليمية الراهنة حيث تلوح في الأفق بداية تسويات سياسية، لا سيّما في سوريا الأقرب والأكثر تأثيراً في المجريات اللبنانية.
في السياق، يرى علّوش أنّ «خطوات الرئيس الحريري السياسية حرّكت المياه الراكدة في المستنقع اللبناني بعد هيمنة حزب الله بحكم الأمر الواقع، وفي ظل غياب الرؤيا حول مصير لبنان والمنطقة بعد كل الأحداث التي توالت، وهو ما ولّد انطباعاً باستحالة البحث في تورط الحزب في شؤون المنطقة من اليمن إلى البحرين ومن العراق إلى سوريا». ويعتبر أنّ «الإستقالة أحدثت الصدمة التي تحدث عنها الرئيس الحريري»، مشيراً إلى أنّ «الرسالة وصلت إلى طاقم الحكم في لبنان ومفادها أنّ سياسة دفن الرأس في الرمال وصلت إلى نهايتها، وأن علينا أن نأخذ الأمور على محمل الجد بخصوص مصلحة لبنان في علاقته مع دول الخليج التي أساء إليها حزب الله بكل الأشكال».
ويلفت إلى أنّ «عودة الرئيس الحريري وإعلانه تجميد الإستقالة بعد لقائه رئيس الجمهورية أعطت انطباعاً بأن بعض التسويات ممكنة لتحييد لبنان عن الصراع القائم في المنطقة ولو من ناحية الشكل، بانتظار الأسابيع المقبلة لنرى النتائج»، مشدداً على أن «المرحلة المقبلة ستتمحور حول خلق أوسع تضامن عربي ودولي حول لبنان لجعله في موقع المحصّن من تداعيات التغييرات في المنطقة والتي لم تصل إلى نهاياتها، وهو ما لا يمكن أن يحصل إلا من خلال الضغط على حزب الله بغية إقناعه بعدم جواز الإستمرار بخدمة مشاريع إيران، وحصر إهتماماته بلبنان».