مثيرة هي برودة رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري في مهمّة التأليف. استعجل التكليف والاستشارات غير الملزمة موحياً بأنّ التشكيلة شبهُ منجزة ولا تحتاج إلّا الى لمسات لكي ترث حكومة تصريف الأعمال، وإذا به يضع التسمية في جيبه ويتأنّى في حساباته ليضربَ موعداً مؤجَّلاً لولادة حكومته الثانية في عهد الرئيس ميشال عون…
يقرّ الجميع بأنّ المالية العامة على حافة الانهيار، وبأنّ البلاد لا تحتمل ترفَ الغنج والدلال، وبأنّ المنظّمات والمؤسسات الدولية ترصد أفعالَ السلطات اللبنانية لا أقوالها، وتستعجلها بعض الإصلاحات لكي تبادر الى مدّها ببعض العون… لكنّ أداءَ القوى السياسية لا يوحي بهذه الجدّية في التعاطي.
حتى اللحظة، يتحصّن الحريري بالانتظار. أقلّه هكذا يشي تروّيه. ينأى بنفسه عن أيِّ دعسةٍ ناقصة، وكأنه يترك لمسبّبي العِقد الوزارية مهمّة حلّها بأنفسهم. يعتصم بالهدوء ويحاذر حتى التلويح بإمكانية وضع مسودة تشكيلة حكومية ينطلق منها في «ماراتون» نزع ألغام الحصص والحقائب.
يعترف عارفوه بوجود «قطبة مخفيّة» يعجزون عن فكّ أحجيتها، أقلّه في الوقت الراهن، لكنها تثير احتمالَ أنّ الرجل يراهن على حدث ما أو أمر ما لا يزال طيَّ الكتمان.
ثمّة مَن يقول إنّ يدي رئيس الحكومة المكلّف في الماء البارد. التكليف في دارته، والتأليفُ تحصيلٌ حاصل. لا يبدي استعجالاً كي لا تأتي الطبخة على حسابه وحساب توجّهاته. هو أصلاً مجبَر، على تقديم تنازلاتٍ من «طبقه» السنّي. ولن يكون بالتالي مضطراً للاستعجال لكي لا يُجرّ الى التنازل طوعاً. وفق عارفيه، سيصعب عليه أن يقدّم وزيرَين سنّيَين (أحدهما من حصّة رئيس الجمهورية والثاني ممثل عن معارضيه) يُخرَجان من تحت عباءته الحكومية. قد يكتفي بوزيرٍ واحد، لكنْ إثنان فهذه مسألة يصعب هضمُها بالنسبة للحريري، إن لم نقل مستحيلة.
ولهذا أيضاً يصرّ على أن تكون حكومتُه ثلاثينيةً ويرفع الفيتو ضدّ سيناريو توسيعها لتكون مؤلّفة من 32 وزيراً، لأنّ كل إضافة ستقلّص من نسبة رزمته الوزارية، حتى سيناريو الـ26 وزيراً يعارضه كما يقول عارفوه، كون هذا يحوّله أقلّيةً على طاولة الحكومة على اعتبار أنّ الوزيرَين العلوي والسرياني لن يكونا من حصّته، ولو أنّه يدرك أنّ رئيس الجمهورية لا يناور في هذا المطلب لا بل يصرّ عليه.
التفسير الوحيد المتداوَل حتى اللحظة بين أصحاب الشأن، هو أنّ الحريري يهرب إلى الأمام من الخلاف المسيحي- المسيحي حول الحصص بعد ما وُضع على طاولته من معطيات: فـ»القوات» أبلغته أنّ حضورَها النيابي يتيح لها أن تكون ممثّلةً بنائب رئيس الحكومة الى جانب حقيبة سيادية وثلاثة وزراء، فيما جواب «التيار الوطني الحر» على هذه الكوتا، بأنّ الحصّة القواتية لا يجوز أن تقفز فوق ثلاثة وزراء.
تبلّغ الرجل الجوابين وأقفل على ردّه. هو طبعاً يتجنّب المواجهة مع كلا الفريقين. يرفض الاصطدامَ مع «العهد»، ويفضّل أن يكون متجاوِباً مع تمنّي السعودية باحترام مطالب حليفها القواتي، خصوصاً في ضوء ما يتردّد أنّ الحريري، وعلى خلاف ما نُشر، قد التقى في زيارته العائلية الأخيرة الى الرياض، نائب وزير الداخلية السعودية، ما جعله غير مرتاح لموقف السعودية منه.
وعليه يترك الرجل الطابة في ملعب المسيحيين لكل يتوصّلوا الى صيغة مشترَكة تُخرجه من ساحة الاشتباك سليماً. يقول أحد المطّلعين إنه التفسير الوحيد للبرودة التي يتسلّح بها رئيس الحكومة المكلّف.
هكذا، يسود الاعتقاد أنّ رئيس الجمهورية هو أكثر استعجالاً منه. فالجنرال وعد في أن تكون حكومتُه الأولى بعد الانتخابات النيابية، وحان وقتُ هذا الاستحقاق. وهناك مَن يراهن على أنّ تعليق العِقد الحكومية سيدفع بسيّد بعبدا الى التدخّل جدّياً لدفع القوى الى تقديم التنازلات تسهيلاً لولادة الحكومة، و«التيار الوطني الحر» سيتماثل في الخطوة التنازلية.
لكن مَن يعرف الرجلَ جيداً يدرك أنه من الصعب الضغط عليه ولو بالوقت. ليس من قماشة هؤلاء الذين يلينون بسرعة. قوّة معاندته لا تزال على حالها. لا بل أكثر من ذلك، توحي حركة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل تجاه «حزب الله» والإيجابية الاستثنائية تجاه رئيس مجلس النواب نبيه بري، أنّ «التيار» ليس في وارد ممارسة «التواضع الحكومي» أو تقديم هدايا مجانية. العكس تماماً، هو يراهن على دعم حلفائه ليوسّعَ من حضوره الوزاري الذي يستحيل الفصلُ بينه وبين حصة رئيس الجمهورية.
حتى «حزب الله» لا يتصرّف على أساس أنّ تشجيعه لتسريع المشاورات ينمّ عن خشيته من مزيد من العقوبات الأميركية قد تدفع به الى لعب دور الوسيط المسهّل لولادة الحكومة.
المطّلعون على أجواء الثنائي الشيعي يجزمون أنّ الشريكين ليسا مهجوسَين بالوقت خصوصاً وأنّ المشاورات لا تزال ضمن المهل المنطقية، ويمنحان بقية الأطراف كل الوقت الممكن للتخفيف من أوزانها الزائدة. ولذا ليسا في وارد الضغط على أيٍّ من حلفائهما لدفعهم خطوات إلى الأمام من باب تقديم تنازلات.