يراقب اللبنانيون بكثير من الشغف والحذر، تطورات الساعات الأخيرة، التي تحمل في تفاصيلها مؤشرات لافتة، لإقتراب الخروج من دوامة حرب غزة، وتداعياتها في الجنوب اللبناني، وتزايد فرص نجاح مساعي الرباعية في وقف المجازر في القطاع، عبر هدنة طويلة تُمهد لإنهاء حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، وتُطفئ نيران التوتر والتصعيد العسكري في المنطقة، بدءًا من الحدود اللبنانية، وصولاً إلى البحر الأحمر.
يبدو واضحاً أن أطراف الحرب «تعبوا» من فترتها الطويلة، وغير المسبوقة، وأتعبوا معهم الحلفاء والأصدقاء. الوضع الإسرائيلي أصبح على فوهة بركان داخلي، بسبب الإنقسامات الداخلية والخسائر الفادحة في الميدان.
حركة حماس، رغم الصمود الأسطوري في مواجهة أعتى آلة عسكرية في الشرق الأوسط، لم تعد بكامل جهوزيتها رجالاً وعتاداً بعد أكثر من ١٤٠ يوماً من القتال الضاري. والإدارة الأميركية تعاني من ضغوط الإنتخابات الرئاسية، والإعتراضات الداخلية والعالمية على دعمها المطلق لتل أبيب، والإرتدادات السيئة لاستعمالها الفيتو في مجلس الأمن ضد قرارات وقف النار، فضلاً عن التهديدات التي تحيط بمصالحها في المنطقة العربية.
كما إستنزفت هذه الحرب الكثير من الإمكانيات والطاقات، وتسببت بخسائر ما يفوق كل التوقعات، ولم يستطع أي طرف، خاصة الإسرائيلي، الوصول إلى الأهداف التي تعهد بتحقيقها تحت ضغط التقتيل والتدمير، فضلاً عن تعريض الأمن والإستقرار العالمي لهزات أربكت التجارة العالمية، ووضعت الإمدادات النفطية في دائرة الخطر. ولكن صمود المقاومين الأبطال، وفشل العدوان الوحشي في تحقيق أهدافه، يعني إنتصاراً مدوياً للقضية الفلسطينية، أخرج «حل الدولتين» من عالم الإهمال والنسيان، وفي الوقت نفسه، هزيمة نكراء لنتانياهو وفريقه اليميني المتطرف، الذي خاض أبشع الحروب وأشدّها إستنزافاً للكيان الصهيوني، وضرب الثقة الداخلية بالدولة وقدراتها الدفاعية الرادعة.
ليس من السهل طويّ صفحة الحرب، والتغاضي عن مضاعفات الدمار والمآسي التي يعيشها أهالي غزة، ولكن البحث في «اليوم التالي» يصبح على الطاولة مباشرة، إثر تثبيت الهدنة، وتنفيذ الخطوات التي يتم الإتفاق عليها بالنسبة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين، مقابل أعداد من المعتقلين الفلسطينيين، وبدء الإنسحاب العسكري الإسرائيلي من غزة. وهذا يتطلب إستنفاراً من جانب السلطة الفلسطينية، لنفض الغبار عن مفاصلها، والتخلص من الترهل الحالي، والإستعداد لإدارة شؤون القطاع، بالتوافق مع حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، وربما بإشراف عربي ودولي مؤقت، لوضع ترتيبات إعادة الإعمار، وتأمين الحاجات الضرورية لأهالي غزة، الذين خسر الكثير منهم منازلهم، وباتوا في الخيم، وفي ظروف معيشية دون المستوى الإنساني.
حرب غزة ستبقى وصمة عار، ليس في تاريخ الدولة العبرية وحسب، بل جريمة إنسانية في تاريخ المجتمع الدولي، الذي إكتفى بدور الشاهد الأصم على المجازر الجماعية التي أُرتكبت بحق أكثر من مليونين من المدنيين، وأوقعت أكثر من مائة ألف بين قتيل وجريح، معظمهم من النساء والأطفال.
*******
هدنة غزة ستسحب مفاعيلها على الجبهة الجنوبية في لبنان، وتتوقف المناوشات اليومية مع العدو الإسرائيلي، وتعود الملفات المعلقة إلى الساحة من جديد، وفي مقدمتها: الإستحقاق الرئاسي وترسيم الحدود البرّية.
بوادر تحريك الملف الأول بدأت تظهر في الأفق النيابي، من خلال إخراج المشاورات النيابية من عنق الزجاجة، عبر «مبادرة» كتلة الإعتدال الشمالية إلى دعوة كل الكتل النيابية لجلسة إستشارات موسعة تحت قبة البرلمان، للبحث في الإستحقاق الرئاسي، ووضع نتيجة النقاشات في عهدة رئيس المجلس، الذي تعهد بعقد جلسات مفتوحة ومستمرة، إلى أن يخرج الدخان الأبيض مع إنتخاب الرئيس العتيد.
يمكن القول أن مبادرة نواب عكار والمنية والضنية ليست بعيدة عن أجواء حراك سفراء الخماسية في بيروت، والذين ناقشوا مع الرئيس برّي إمكانية إجراء إستشارات نيابية ثنائية أو ثلاثية أو أكثر، على غرار ما جرى عشية التمديد لقائد الجيش، تنتهي بتوافق الجميع على الإلتزام بتأمين النصاب لجلسات الإنتخاب الرئاسية المستمرة والمفتوحة، بغض النظر عن إمكانية التوصل إلى شبه إجماع حول مرشح واحد، يتم إنتخابه بالتزكية، كما حصل مع الرئيس العماد ميشال سليمان، أو في حال تعذر التوافق والإجماع، وإستمرار أكثر من مرشح في السباق الرئاسي، فيفوز المرشح الذي يحظى بالأكثرية في صندوقة الإقتراع، ويصبح رئيساً لكل اللبنانيين.
وقد أبلغ سفراء الخماسية من يعنيهم الأمر من القيادات السياسية والحزبية، أن مهمة الدول الخمس هي فتح الأبواب لخروج لبنان من أزماته الراهنة فقط ، وفي مقدمتها إنهاء الشغور الرئاسي، وإعادة الإنتظام للمؤسسات الدستورية، وخاصة للسلطة التنفيذية، وتشكيل حكومة قادرة، على أن تبقى مسألة إنتخاب الرئيس مسؤولية لبنانية بإمتياز، تتحملها الأطراف السياسية كافة، على إختلاف ألوانها الحزبية والسياسية والطائفية.
ويكرر سفراء الخماسية في لقاءاتهم الجماعية أو الإفرادية، أمام الجميع. بأن دولهم لن تخوض بأسماء المرشحين، لا تأييداً ولا تفضيلاً، ولا حتى تشطيباً، أي لا فيتو على أحد. فالأهم بالنسبة لهم أن تتوافر فيه المواصفات التي حددها بيان الدوحة، بعد الإجتماع الذي عُقد على مستوى وزاري، وتعهد فيه الجميع بعدم الخوض في لعبة الأسماء، وترك الخيارات مفتوحة أمام النواب اللبنانيين.
تجاوب الكتل الكبيرة، المسيحية: القوات والوطني الحر والكتائب من جهة، وحزب الله من جهة أخرى، للنزول إلى الجلسات التشاورية، يعني أن الجميع تعب من بقائه فوق الشجرة، وأتعب معه بيئته وجمهوره، والبلد بأكمله، وراح يبحث عن مخرج لائق ويحفظ ماء الوجه، للتنازل عن «شروط الموسكوب»، والإقتراب من الآخر. وهذا يعني عودة الجميع إلى أرض الواقعية السياسية، بعيداً عن الأهداف المستحيلة والمكابرة العنيدة.
ولكن تسارع التطورات الإيجابية فجأة، يدفع البعض في لبنان إلى التساؤل، على الطريقة اللبنانية المعهودة: هل وصلت «كبسة الزر» لفرض الهدنة في غزة، والإفراج عن الرئاسة الأولى في لبنان؟