هنا الحدود اللبنانية – الفلسطينية وهناك، وراء الحدود، الفلسطينيون الذين يدفعون فاتورة تلو فاتورة باللحم الحيّ. وهنا وهناك وهنالك شعبٌ فلسطيني عانى طوال 73 عاماً الأمرّين ويستمر. ودائماً لحساباتٍ أكبر منه وطموحات من يعبثون بمصيره، وبدمِ أطفالِهِ، ويهتفون بصوتٍ عالٍ: زحفاً زحفاً نحو القدس!
هو يومُ الأحد. الشبابُ الفلسطيني (العاطل عن العمل) مشلوحٌ على الطرقات ينفث دخان نراجيل ويُحلل في الأحداث. الباصات انطلقت للتوّ من المخيم الفلسطيني في برج البراجنة في بيروت نحو الحدود اللبنانية – الفلسطينية، إستقلها شبابٌ اختيروا بعناية شديدة من منظمة الجهاد الإسلامي ليكونوا في عداد “المحظوظين” للمشاركة في يوم الأحد الطويل. شابٌ يقعد على الرصيف يراقب العابرين نسأله: لماذا لم تذهب مع من ذهبوا؟ يضحك كثيراً ويجيب: وهل تظنون أن ذلك يحدث “بالفطرة”؟ الباصات تنطلق بإشراف أحزاب وقوى مزودة بتعليمات. لا شيء يحدث “هيك”.
نتوغل في المخيم. الكوفيات مشلوحة على أكتاف الكبار والصغار، النسوة والرجال، وياسر عرفات يطل من كل الشبابيك مذيلة صوره بعبارات: ستبقى كوفيتك هوية الأحرار.
“ثورة ثورة حتى النصر”. عبارة “خُرطشت” على الجدران. العرب يعشقون الشعارات. وامرأتان من صفد تقعدان على حجرين محملتين بمرارة الأيام والأعوام. أم ناديا تحدثت للتوّ مع إبنتها ناديا مفيد العلي الموجودة في غزة وسمعت عبر الهاتف صوت القصف. مضى 25 عاماً لم ترها فيها، منذ كانت في اليمن، وهربت من هناك إثر الأحداث التي ضربت تلك البلاد. وكأن نصيبها أن تظل تحمل عمرها وتنتقل من بؤرة الى بؤرة. تتنهد أم ناديا فنسمع من أنفاسها وجع شعب.
الجرحُ والعشق
نمر الى مكتب قيادة فتح. مسؤول الشعبة في فتح الحج عمر موجود حالياً في صيدا. وأبو عماد معتصم بالصمت. وأبو أحمد يستلم دفة الشرح: “سنحرر أرضنا والحقّ لا يضيع ولو بعد مئة عام وسينتصر شعبنا”. كلامٌ جميل. لكن، ما هي أدوات التحرير المتوافرة حالياً؟ يجيب: “مضى على المشهد السياسي ستة أيام جرّبت فيها إسرائيل كل الأسلحة فلتفتح الدول العربية المجاورة لبنان وسوريا ومصر والأردن بلادها ستة أيام ولتترك الشعوب تواجه وحينها سننتصر”.
حركة فتح موجودة بقوة في مخيم برج البراجنة “لأنها تدفع”. يعلق فلسطيني يتابع التطورات عبر قناة الجزيرة. ويستطرد: “يعمل إبني في فريق كرة القدم في فتح ويتقاضى 225 دولاراً شهرياً”. أمام مكتب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عنصر مسلح يحمل بندقية كلاشينكوف وتعليماته واضحة “التصوير ممنوع”. وأمام المكتب عبارة “نحن نور لمن اهتدى ونار على من اعتدى”. فماذا يفعل العنصر هنا في مخيم برج البراجنة في مواجهة النيران على غزة؟ يجيب “فلسطين هي العشق وهي الجرح لكن، لا يمكننا أن نترك المكتب هنا شاغراً، لذا انتقل بعضنا الى الجنوب ويستمر بعضنا في الحراسة هنا”. و… ويسكت العنصر عن الكلام “فالأوامر واضحة لا كلام ولا تصوير”.
فلافل وتحليل
الأطفال يلعبون بالمسدسات المطاطية والكبار يُمسكون ببنادق حقيقية والمسنون يتذكرون فلسطين وما سمعوه عن فلسطين. أبو أحمد (كما أحب تسمية نفسه) يبيع الفلافل. وشغله نار. يعمل 17 ساعة يومياً ويُحلل أكثر من محللين كثيرين: “إسرائيل تختبر أسلحتها حالياً. هي تريد إستكشاف قدرات المقاومة ولو أرادت لمحتنا جميعاً، من المحيط الى الخليج، من الجغرافيا في خلال ساعات. ويستطرد: برأيك بعض الأسلحة التقليدية قادرة على مواجهة كل السلاح الإسرائيلي؟ الموضوع أكبر بكثير من غزة. الموضوع وراءه “إنّ”. وشددي على كلمة “إنّ”. يُعبئ دزينة فلافل أخرجها للتو من الزيت الدزينة بثلاثة آلاف ليرة فقط. أما بعد: “الوضع في لبنان وسوريا ومصر “خالص”. الشعوب تعيش مجاعة. و”حزب الله” ليس قادراً على تأمين خمسة ليترات زيت قلي الى جماعته. وبالتالي هو عاجز عن (خوض) أي حرب حالياً”.
صيدليات على مدّ العين، وعند كل مفرق وزاوية، وأكياس حليب النيدو التي لم نرها منذ أشهر كثيرة وجدناها في المخيمات الفلسطينية. وكرتونة البيض بسعر 20 ألفاً. وشعارات كثيرة من نوع “لا للمخدرات في المخيم” تذكرنا بمسلسل رمضاني “2020”. نفس الخليط السكاني والمشهدية الجغرافية والأسلاك الكهربائية المتشابكة التي تظلل الأحياء.
هبّة شعبية
فلنسأل مسؤولاً. ما رأي الباحث الفلسطيني الدكتور هشام الدبسي بمشهدية النار والدمار في غزة؟ يجيب: “هناك مفصلان في أحداث غزة: الهبّة الشعبية التي حدثت في القدس من أجل المسجد الأقصى وحيّ الشيخ جراح ثم ما حصل لاحقاً. تلك الهبة أعطت المسألة الفلسطينية بعداً كبيراً لكن دخول حماس على الخط وتوسيع الأمر الى حربٍ شاملة تستخدم فيها الصواريخ كان لها تأثير سلبي على التعاطف مع الفلسطيني والدعم الذي تشكّل جراء الهبّة السلمية. وما حصل بتقديري حسابات خاصة لها علاقة بكيفية إرادة حماس إستخدام اللحظة السياسية وجرّ الحالة الفلسطينية الى العنف. ما يحدث جاء لمصلحة إسرائيل وحقها في صون أمنها من صواريخ حماس ما بدّل كل الصورة التي بدأت إثر الهبة الشعبية. وخسرنا كفلسطينيين سياسياً خسائر فادحة. فإسرائيل تمارس سياسة الأرض المحروقة والقوة المفرطة بحجة الدفاع عن نفسها”. سؤالٌ يُطرح: لماذا التوقيت الآن؟ يجيب الدبسي “أرادت حماس الإستفادة من فشل الإنتخابات الفلسطينية والمصالحة الداخلية لتقول للعالم انها المرجعية الرئيسية للفلسطينيين لا السلطة الوطنية في رام الله. ويستطرد: مهما كانت قدرات حماس العسكرية فليست بمستوى قدرات إسرائيل. ومهما بلغ حجم الدعم القطري والإيراني والتركي فليس بحجم الدعم الأميركي لإسرائيل. ومشكلة السلطة الفلسطينية حالياً صعبة جداً في ظلّ الأمن المتفلت. إنها تحاول قدر الإمكان تخفيف مستوى العنف السائد وتأمين مستلزمات الناس لكنها حالياً في أضعف حالاتها علماً أنها المرجعية القانونية والسياسية”.
يتحدث الدبسي عن “المسألة الفلسطينية وترابطها مع فيلق القدس وإيران” ويقول “هذا الإستخدام للحالة الفلسطينية لن يتوقف بدليل ما نشهده تحت عنوان التعاطف والدعم و”زحفاً زحفاً نحو القدس”. إنهم يستخدمون الحالة الفلسطينية لكني لا أرى خطراً مما يدور لأن الأمور في لبنان مكشوفة الى أبعد حدود. ولا يوجد فلسطيني في لبنان يحمل علماً فلسطينياً إلا إذا أمّن له غطاء من جهات تحركه في هذا الإتجاه. في كل حال، والكلام للدبسي: لا يحصل أي شيء في لبنان وفي الشرق الأوسط، في شكل عفوي أو مفتعل، إلا ويصبّ في ملفات اللحظة، وبينها ملف المفاوضات الإيرانية – الأميركية، بدليل إطلالة أسامة حمدان وقوله: ان صواريخ حماس من إيران وأن حماس تستفيد من تقنيات إيرانية. هذا الكلام يصبّ لمصلحة إيران في المفاوضات. والإستثمار في مصير الفلسطيني يستمر. فالشعب الفلسطيني يدفع الأثمان من لحمه وممتلكاته وما يدور اليوم يزيد بؤسه بؤساً”.
الوجع الفلسطيني كبير لكن الإستثمار في القضية أكبر. فلنعد الى المخيم لنشهد على حال ساكنيه. أصواتُ الأطفال مرتفعة و”المراجيح” تروح وتجيء. وقهقهات بعض الكبار مسموعة. وصوت فضل شاكر يرتفع في الأرجاء في أغنيته الشهيرة: مرقت الأيام ولليوم ما طليت زعلان وصرلك مدة قولك بدها هالقدي… تعرف يا غالي من ليلة لفليت بشوفك ليليي حدي جايي وجايبلي وردة”.
شبابٌ ينتظرون من يقلهم الى الحدود. البارحة حاولوا الوصول لكن الجهاد الإسلامي رفض تسجيلهم على خانته “ليصعدوا معه” فسجل بعضهم “الحزب القومي السوري” ومن حاول الصعود بلا مرجعية حزبية رُدّ عند حاجز الجيش اللبناني. ويقول عنصر من فتح “القوى الأمنية تغض النظر قليلاً و”حزب الله” سمح لكثيرين بالعبور لكن يبقى الأمر إستنسابياً”. بائعة تصرخ “طاقيات طاقيات”. وأحد الفلسطينيين المتسمّرين أمام شاشة التلفاز يعلق بكلمتين لا ثالث لهما: “خريانة خريانة” فليتابعوا المعركة حتى النهاية نموت نحن أو يموتون هم. يعلق ثان: كبّر عقلك. ستنتهي كما بدأت. في انتظار معركة أخرى. هذا قدرنا. يتدخل ثالث: لا، لن نتشاءم سننتصر. والعودة قريبة جداً كما جاء في القرآن في سورة الإسراء والمعراج”. يسأله رابع: ماذا جاء في السورة؟ يفكر كثيراً ويحيله الى خامس فيجيب: تنبأ القرآن بنهاية الكيان الصهيوني”.