Site icon IMLebanon

توسعة حرب غزة

 

 

بعد ما يقارب الثلاثة أشهر من بدئها، خرجت حرب غزة من يد إسرائيل، وصارت في يد أميركا. خاضت هذه المرة، حربا لم تتعودها. فجميع الحروب التي خاضتها، منذ تأسيس كيانها حتى اليوم، كانت حروبا خاطفة. يقول المحللون السياسيون والإستراتيجيون: إن إسرائيل تتبع استراتيجية الحرب السريعة، إستراتيجية الحرب الخاطفة. وكانت مثل هذه الحرب، قادرة، على الحسم لمصلحتها. وكانت في نهاياتها كلها، هي المفاوض الأول، لأنها كانت تحصد الأوراق السياسية، والأوراق الاستراتيجية، والأوراق التي يمكن التفاوض عليها، والأوراق التي يمكن التنازل عنها.

كانت الحرب التي تخوضها هي مع الدول، سواء كانت هي المباغتة، وسواء كانت الحرب قد باغتتها، كما في «حرب الغفران – حرب تشرين» – العام 1973.

 

كانت الحرب الخاطفة دائما لمصلحتها، وكانت نتائج الحرب الخاطفة، هي أيضا لمصلحتها. فقراءة حرب 1948، وحرب 1967، وكذلك حرب 1973، وحرب 1982، تدلّنا على أن إسرائيل، كانت تحارب دولا، وكانت قادرة بحرب خاطفة، على وضع شروط وقفها، هي بنفسها ولنفسها.

كانت إسرائيل في جميع تلك الحروب، تتقدم وحدها للمفاوضات، وتجعل الدول الكبرى خلفها، قبل أن تلتقط أنفاسها. كانت حربها، «هوليودية»، سينمائية. فهي تجعل أهدافها تهوي لوحدها، من شدّة الدويّ، من شدّة الإعلام، من شدّة الإحكام في قواعد اللعبة. ثم تنادي على الدول، لترى في أمرها. ولهذا كانت نتائج الحرب كلها في يدها، قبل أن يتم الإعلان عن وقفها. كانت حروبها كلها دولتية: مع جيوش، حتى حربها في إجتياح لبنان – 1982، كانت حربا مع سلطة منظمة واحدة، عليها رأس واحد، كما على الدول، وبيدها لعبة التفاوض، وبيدها تقرير النتائج، وبيدها أن تضع الحرب أوزارها. لا تحتاج بذلك إلى شركاء، بل كانت تدعوهم بصفة شهود، لا أكثر ولا أقل.

 

اختلفت اليوم على إسرائيل، الحرب في غزة، فوّتت على نفسها ما تحسنه من الحرب الخاطفة. فما إستطاعت أن تسيطر بعد على نفسها في الحرب، لا في داخلها ولا في الخارج. فشلت في أن تجعل من الحرب في غزة، حربا خاطفة. لم تستطع «توسعة الحرب»، لأن خططها صارت مكشوفة تاريخيا، ولهذا لم تجد حيلة لتوسعة الحرب، وجرّ الدول إليها، أو لجرّ «السلطة» في رام الله إليها. كذلك لم تجد من شعبها الصف الموحّد ورائها، كما كانت تفوز به في السابق، فقياداتها مهتزة، مترددة، وأحزابها مهتزة، مترددة. وأما دول العالم كلها، فهي تدعوها من خلال المنابر الدولية، أن توقف هذه الحرب العبثية في غزة.

لم تستطع توسعة الحرب إلى الشمال، ولم تستطع توسعة الحرب إلى الجنوب، ولم تستطع توسعة الحرب الى الغرب. أما البحر، فهو ورائها، يحاصرها أكثر مما هي تعوّدت أن تفرض الحصار على البحر، لم تعد بيدها ورقة الحصار البحري، لم يعد البحر ورقة بيدها.

كانت إسرائيل في الحروب السابقة، لا تحتاج إلى توسعة حربها، لأكثر من يوم أو يومين. وما كانت تحتاج لفرض حسم الحرب، لأكثر من أسبوع أو أسبوعين. وما كانت تحتاج لفرض شروطها، لأكثر من شهر أو شهرين. كانت حربها حربا إمبراطورية. وكانت إمبراطوريتها في الحرب، تتبع التوسعة الخاطفة، لتدير الحرب الحرب الخاطفة. وكانت هي سيدة الدخول في الحرب. كما كانت سيدة الخروج من الحرب، وكذلك سيدة الظفر بنتائج الحرب.

اختلفت على إسرائيل اليوم، الحرب في غزة، باغتتها عملية «طوفان الأقصى»، وزلزلتها. زعزعت ثقة شعبها بها أولا. وزعزعت ثقة رئيسها بجيشها. وزعزعت ثقة القيادة برئيسها. فصارت كل أجهزتها إلى البلبلة. صارت كل خططها إلى التشوّش. صارت كل عملياتها تحصد الفشل، وسواء كانت قد أتتها الحرب بغتة، أو كانت على علم بها، فإن النتيجة التي إرتدت عليها، هي واحدة: تخوض أقسى الحروب في تاريخها. تحارب في مدينة واحدة، وتعجز أن تجعل من حربها فيها، حربا خاطفة. وهذا هو أول عجزها. هذا هو أقسى عجزها.

فبعد أشهر طويلة من الحرب، لم تستطع الوصول إلى نتائجها. فهي لا تزال بعيدة عن ثمن غزة. تتصيّدها المصائد المنصوبة لها، أكثر مما هي تتصيّد في المصائد. تتكاثر عليها الأنفاق، والشوارع والزواريب، حتى لا تستطيع التمكن من وضع خطة لها. فحرب المدينة الواحدة، أصعب بآلاف الدرجات، من حرب دولة، من حرب دول عديدة.

لم تتعوّد إسرائيل الخسائر في عديد جيشها، لم تتعوّد إسرائيل الخسائر في شعبها، لم تتعوّد إخلاء المستوطنات، وما إعتادت أن تدعو شعبها للنزول إلى الملاجئ، ولا أن تدعوهم إلى الابتعاد عن الحدود. وما إعتادت أن ترى الصواريخ تسقط في قلب عاصمتها.

خرجت حرب غزة من يد إسرائيل، على صورة ما إعتادت في كل حرب. تخوض اليوم حربا ما إعتادتها في تاريخها الطويل مع الحروب، كل يوم يمرّ عليها، يؤكد هزيمتها المؤكدة لا محالة. ولهذا تتلفت يمينا ويسارا، تهز الحيرة مواقف رئيسها، مواقف قادتها، مواقف شعبها، مواقف دول العالم منها. حرب غزة هزت حقيقة، أركان إسرائيل كلها، عملت جهدها لتوسعتها، في الجهات المجاورة لها، حتى تتنفس، فلم تظفر بما إشتهت. صارت توسعة الحرب بيد سندها، بيد سادنها، حمل إليها البوارج والغواصات وحاملات الطائرات. صار قرار توسعة الحرب من خط سادنها، من خط حارسها، من خططه، فتقدّم، إستدعى البوارج وحاملات الطائرات، وقد ترك خلفه دولة إسرائيل الفاشلة.

أميركا تدعو إسرائيل لأول مرة، أن تستبدل حربها الغشوم على الشعب الذي لا يقهر، بحرب ذكية. وهذا النوع من الحرب، جديد على إسرائيل، لأنه يحتاج إلى وقت طويل. ولهذا يقول المحللون: خسرت إسرائيل الحرب، حين خرجت توسعتها من يدها. صارت تنتظر توسعتها في البحر الأحمر وفي اليمن وحتى في إيران نفسها. اليوم صارت حرب غزة كلها في يد أميركا. ولهذا فإسرائيل عليها إذا أن تنتظر، كثيرا، لأنها دخلت في معادلة جديدة: معادلة «حساب الحقل وحساب البيدر». فيما إذا كانت أميركا، مع توسعة الحرب، أو ضدها.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية