Site icon IMLebanon

شبح 6 أيار: الحكم والحاكم

 

ما بين فرنجية وسركيس وما بين عون وسلامة

في 17 آب 1970 خسر الياس سركيس معركة رئاسة الجمهورية في مواجهة سليمان فرنجية بفارق صوت واحد. لم ينجح حاكم مصرف لبنان في أن يصير حاكماً للبنان. كان مرشحاً باسم فؤاد شهاب والنهج والشعبة الثانية في عهد الرئيس شارل حلو ضد مرشح الحلف الثلاثي. في سيارة يقودها صديقه الأمير فاروق أبي اللمع غادر سركيس مبنى مجلس النواب في ساحة النجمة وطلب التوجه إلى بلدته الشبانية. على الطريق كانا يسمعان أصوات إطلاق الرصاص وقرع الأجراس ابتهاجاً في القرى المسيحية. لم يعلق الياس سركيس. عندما وصلا إلى الشبانية كانت الأجراس لا تزال تقرع. قال لفاروق أبي اللمع: “الآن عزّت عليي الدني… حقيقة أنو الدني مع الواقف”. الياس سركيس خسر معركة ولكنه لم يخسر الحرب.

عندما بدأت حرب العهد الجديد على الشهابية بقي الياس سركيس صامداً في مصرف لبنان. كثيرون من خصوم الشهابية والمنقلبين عليها أرادوا أن تشمله عملية التغيير وملاحقة ضباط الشعبة الثانية وأركان العهد الشهابي الذين فضّل عدد منهم مغادرة لبنان. اعتبر سركيس أنه يخدم الدولة وليس العهد أو الشخص، وأن موقعه في حاكمية مصرف لبنان يحتم عليه أن يبقى فوق الصراعات السياسية. لذلك عندما كانت الدولة تنزلق إلى الفوضى حافظ على سعر الليرة واستمر في تكوين احتياط مصرف لبنان من العملة الصعبة والذهب. ولكن على رغم ذلك كان هناك من يريده أن يكون ضحية إذ لا يجوز أن تنهزم الشهابية ويبقى الياس سركيس في موقعه.

 

فرنجية يتمسك بسركيس

 

في العام 1968 كان مديراً عاماً للقصر الجمهوري عندما اختاره الرئيس شارل حلو أن يكون حاكماً لمصرف لبنان من أجل تجاوز أزمة انهيار بنك أنترا. كان فيليب تقلا يتولى هذه المسؤولية وكان أيضا وزيرا للخارجية في العام 1966. استشار سركيس الرئيس فؤاد شهاب فوافق. بعد حملة عليه بسبب جمعه بين منصبي مدير عام القصر وحاكم المصرف المركزي اختار أن يكون الحاكم وعمل على نقل القطاع المصرفي إلى دائرة الأمان بينما كان لبنان يدخل دائرة القلق على مصيره في منطقة تتفجر فيها البراكين السياسية والعسكرية.

 

لم يأخذ الرئيس سليمان فرنجية بمطالب تنحية سركيس الذي كانت ولايته تنتهي في العام 1974. في أواخر حزيران 1971 شنّ الرئيس صائب سلام حملة جديدة عليه وعلى الشهابيين في محاولة جديدة لجس نبض الرئيس وإخراج المسألة إلى التداول الإعلامي. وفي أوائل تموز لاقاه العميد ريمون إده الذي اعتبر أن سركيس ترشح إلى رئاسة الجمهورية ولم يقدم استقالته من وظيفته التي استغلها في معركة الرئاسة بالتدخل لدى عدد من المصارف لتسليف عدد من النواب مبالغ مالية من أجل ضمان تأييدهم له ودعاه إلى الإستقالة. لكن سركيس لم يستقل. تصرف كرجل دولة في نطاق ما يفرضه عليه الواجب تجاه الرئيس معتبراً أنه إذا كان لا بد من إقالة فليحصل ذلك بأمر منه. ولكن الرئيس فرنجية لم يفعل. لم يلبّ رغبة الإنتقام من خصمه في انتخابات الرئاسة. كان يدعوه أحيانا إلى مائدته للتداول معه في الشؤون المالية وعندما أعاد سلام طرح الموضوع أمامه كان موقفه حازماً: “هذا الموضوع انتهينا منه. الياس سركيس كان خصمي في انتخابات الرئاسة ولكنه ليس خصمي أبد الدهر. إنه يقوم بواجبه في المصرف المركزي وليس لي مأخذ عليه فلماذا يجب أن نغيّره؟”. الواقع أن فرنجية ثبت سركيس في موقعه وأمن له الغطاء السياسي والرئاسي من أجل تأمين استمرار الإستقرار النقدي والمالي في وضع سياسي صعب. وقبل أن يحين موعد انتهاء ولايته جدد له فرنجية لولاية ثانية من دون أن يدور في خلده أنه سيخلفه في رئاسة الجمهورية على وقع مدافع الحرب في العام 1976.

6 أيار: الإنقلاب على الطائف

على عهد الحاكم ميشال الخوري الذي خلف سركيس في البنك المركزي بدأ انهيار الليرة في منتصف الثمانينات. في العام 1985 تولى الدكتور إدمون نعيم هذا المنصب وكانت مواجهته الأقسى بين العامين 1988 و1991 حيث اعتبره كثيرون أنه حامي الليرة والرمز الأخير للوحدة الوطنية وحاكم الحكومتين حكومة الرئيس ميشال عون وحكومة الرئيس سليم الحص على عهد الرئيس الياس الهراوي. وكانت معاناته الأكبر في إقامته الدائمة في غرفة محصنة داخل مبنى المصرف ولم يتراجع عن مهمته الإنقاذية حتى عندما حاولت عناصر أمنية بأمر من وزير الداخلية الياس الخازن “سحبه” من مكتبه بالقوة.

في 6 ايار 1992 بدا كأن الإنهيار سيكون شاملاً. في العام 1991 بعد انتهاء ولاية نعيم إعيد ميشال الخوري إلى الحاكمية. وصل الدولار إلى عتبة الثلاثة آلاف ليرة بعدما كان الحاكم قد أعلن أن المصرف المركزي سيتوقف عن التدخل في سوق القطع للحد من انهيار سعر صرف الليرة. نزل الناس إلى الشارع وقطعوا الطرقات وأحرقوا الدواليب فسقطت حكومة الرئيس عمر كرامي. تلك كانت حكومة عهد الرئيس الهراوي الثانية التي شكلت بعد عملية 13 تشرين التي أنهت عهد حكومة العماد ميشال عون وتلك التظاهرات هي التي تسمى اليوم شبح 6 أيار أو مؤامرة إسقاط حكومة كرامي من أجل الإتيان برفيق الحريري رئيسا للحكومة.

 

في مواجهة تلك التظاهرات وقف كرامي عاجزاً. كان عهد الوصاية السورية بعد الطائف يحاول أن يثبت أقدامه وسيطرته التامة على الوضع الداخلي. في تلك الحكومة التي نالت الثقة في 24 كانون الأول 1990 بأكثرية 38 صوتا سمي سمير جعجع وزير دولة ولكنه اعتذر عن عدم المشاركة فتم تعيين روجيه ديب بدلاً منه في 20 آذار 1991. طرفان اتهما بحبك تلك “المؤامرة” رفيق الحريري والقوات اللبنانية. الأول لأنه باعتبار سلطة الوصاية كان يريد أن يكون هو رئيس الحكومة والثاني برئاسة سمير جعجع لأنه يريد الإنقلاب على الطائف.

ربما كان من المفترض والطبيعي في تلك المرحلة أن يكون الحريري رئيساً للحكومة على الأقل للعب دور المنقذ الإقتصادي. ولكن رياح التغيير السورية ذهبت إلى مكان آخر. كان تم تعيين عدد من النواب لملء الفراغات النيابية التي حصلت نتيجة وفاة عدد من النواب ورفع عديد المجلس النيابي إلى 128 وكان من المقرر أن تجرى الإنتخابات النيابية في ربيع العام 1994 بعدما يكون المجلس الممدد له منذ العام 1972 والذي أقر اتفاق الطائف قد أنهى ولايته. ولكن بخلفية التصدي لتلك “المؤامرة” المزعومة عمد النظام السوري إلى تنفيذ انقلاب كامل على الطائف من خلال فرض حكومة برئاسة الرئيس رشيد الصلح وفرض تعديل الدستور وتقصير ولاية مجلس النواب بحيث تحصل الإنتخابات في ربيع العام 1992 وفق قانون انتخابات فصَّل الدوائر الإنتخابية محافظات وأقضية من دون مراعاة وحدة المعايير. وكان من الطبيعي في ظل تلك الضغوط أن يتم التخلص مما تبقى من إرث مجلس 1972 والإتيان بمجلس جديد يشكل طبقة سياسية جديدة تستطيع سلطة الوصاية أن تتحكم بالحياة السياسية من خلالها بالكامل. لذلك نشأت حركة مقاطعة تلك الإنتخابات في الشارع المسيحي في شكل خاص برعاية مباشرة من البطريرك مار نصرالله بطرس صفير و”القوات اللبنانية” قبل أن تنضم إليها أطراف إسلامية أعلنت عزوفها عن الترشيح ليأتي المجلس الجديد بما دون نسبة الـ 14 في المئة من المشاركة في الإقتراع. تلك المؤامرة التي قيل أن القوات والحريري صنعاها كانت في الواقع مؤامرة من نظام عهد الوصاية للإنقلاب الكامل على الطائف لأنه من خلال الإمساك بمجلس النواب يصير من المتاح الإمساك بكل الوضع السياسي.

 

بعد تلك الإنتخابات الإنقلابية أبلغ رئيس النظام السوري حافظ الأسد الرئيس الياس الهراوي أنه صار بالإمكان الإستعانة برفيق الحريري رئيسا للحكومة. بعد استشارات نيابية كلف الحريري تشكيل الحكومة التي ولدت في 31 تشرين الأول بأكثرية 104 أصوات ضد 12 وامتناع 3 عن التصويت.

 

من أبرز ما شهدته تلك الحكومة أنها لم تسمّ أحدا من “القوات اللبنانية”. كان المطلوب محاصرة الحالة الرافضة للإنقلاب على الطائف وأن يكون رفيق الحريري في السلطة من دون أن يكون له إمكانية لنسج علاقات سياسية. من هذه الخلفية وبعد الإنتخابات مباشرة ونتيجة لنجاح قرار المقاطعة بدأت حرب عزل “القوات اللبنانية” من خلال فرض إسقاط الدكتور سمير جعجع في انتخابات رئاسة حزب الكتائب ثم الدخول إلى المجلس الحربي في الكرنتينا والمؤسسة اللبنانية للإرسال في جونية بحجة استعادة ممتلكات الدولة.

حاكمية رياض سلامة

عرفت الحكومة الجديدة تغييرين أساسيين: إزاحة بشارة مرهج من وزارة الداخلية لمصلحة ميشال المر الذي كان فقط نائبا لرئيس مجلس الوزراء ثم إقالة وزير الموارد المائية والكهربائية جورج افرام وتعيين إيلي حبيقة محله في ظل خلاف معه حول استراتيجية خطة الكهرباء. بالإضافة إلى ذلك تم تعيين رياض سلامة حاكما لمصرف لبنان في أول آب 1993 ومنذ ذلك التاريخ لا يزال يتولى هذه المهمة بعدما استطاع أن يعيد التوازن إلى سوق القطع وأن يفرض استقرار سعر صرف الليرة. صحيح أن حضور رفيق الحريري أعطى انطباعاً إيجابياً على المستوى الإقتصادي وساعد في تهدئة الأسواق المالية إلا أن هذه السياسة استمرت مع الحاكم الجديد على رغم الكثير من الأزمات التي مرت منذ تعيينه ولا سيما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري حيث بقي مصرف لبنان ممسكاً بالوضع المصرفي ومحافظاً على استقرار سعر صرف الليرة. منذ ذلك التاريخ أيضاً بدأ الحديث عن المعجزات التي يمكن أن تتحقق وعن ربيع لبنان وعن البواخر التي ستأتي محملة بالكهرباء للقضاء على العتمة. بعد ستة وعشرين عاماً لا تزال البواخر موضوع خلاف ولا تزال الكهرباء سبب الهدر الرئيسي وتراكم الدين العام ولا يزال رياض سلامة يحاول أن يقوم بما قام به منذ توليه الحاكمية. ولكن مع وصول العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا لم تكن العلاقة مع سلامة كتلك التي نشأت بين سليمان فرنجية والياس سركيس. ذلك أن دائرة رئيس الجمهورية سعت حتى قبل توليه الرئاسة إلى استبدال سلامة بحاكم آخر يكون من عدة عمل العهد. ولطالما اعتبر سلامة أنه من “النظام” الذي تآمر في 6 أيار 1992 ضد عهد الوصاية. ذلك أن تهمة المؤامرة كانت دائماً جاهزة. في حرب تموز 1993 اتهم رفيق الحريري بمؤامرة إرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب وفي شباط 1994 اتهمت “القوات” بمؤامرة تفجير كنيسة سيدة النجاة. وفي 14 شباط 2004 اغتيل رفيق الحريري بتهمة المؤامرة التي خلقت القرار 1559 وبعد حرب تموز 2006 اتهمت قوى 14 آذار بالمؤامرة على حزب الله وفي 8 أيار 2008 اجتاح الحزب بيروت والجبل لأنه اعتبر أن هناك مؤامرة على سلاحه وأن السلاح يدافع عن السلاح. تظاهرات الأحد 29 أيلول قيل أنها كانت مؤامرة على العهد وحكي عن شبح 6 أيار ولكن من دون الحديث عن شبح 8 أيار.

من الياس الهراوي إلى أميل لحود وميشال سليمان وصولاً إلى ميشال عون لا يزال رياض سلامة متربعاً على عرش الحاكمية. سليمان فرنجية لم يشك بالياس سركيس ولا اعتبر أنه يزاحمه على رئاسة الجمهورية. ليس هذا وضع سلامه اليوم خصوصا إذا اعتُبِر أنه سيكون أحد أحصنة السباق إلى رئاسة الجمهورية بعدما قال الرئيس عون إن فتح هذه المعركة يعود إلى كون الوزير جبران باسيل في طليعة هذا السباق. من يدري؟ هل تتكرر مسألة انتقال الياس سركيس من حاكمية المصرف المركزي إلى حاكمية الجمهورية بعدما درجت العادة أن يكون الإنتقال من اليرزة إلى بعبدا؟ هذا الإحتمال أيضا يضع قائد الجيش العماد جوزف عون في دائرة الإستهداف.