«حدّة الانقسامات باتت تشكّل لجبران باسيل مصدر إزعاج بفعل تزايد أعداد الناقمين على تفرده بالاستئثار برئاسة التيار وبأدائه عموماً..»
لم يعد ينقص لبنان مواقف تصعيدية واستفزازية، كالتي أطلقها رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل في ما سمي باحتفال الذكرى 29 للعملية العسكرية التي شنّها جيش النظام السوري، وبطائراته الحربية ضد العماد ميشال عون يومذاك، لأن في البلد ما يكفيه من الانقسامات والتجاذبات السياسية التي تحكم العلاقة بين مختلف أطرافه السياسيين ولديه من المشاكل والقضايا الاقتصادية والمالية والاجتماعية بما يتطلب حداً مقبولاً من التفاهمات وتهدئة الخطاب السياسي لإيجاد المعالجات المطلوبة لها في أسرع وقت ممكن.
ما هي أهداف باسيل منا إطلاق هكذا مواقف تصعيدية ضد بعض شركائه الأساسيين وخصومه السياسيين على حدّ سواء في هذا الظرف بالذات؟
يلاحظ ان رئيس «التيار الوطني الحر» الذي انتهج منذ تبوئه لمسؤولياته الخطابات الطائفية تارة والاستفزازية التصعيدية ضد الآخرين تارة أخرى، وتوقف لبعض الوقت عن تكرارها وتردادها لفترة بعد الانتكاسة السياسية الجادة التي مني بها وفريقه في أعقاب حادثة «قبرشمون» المؤسفة جرّاء عدم استطاعتهم فرض إحالة الحادثة على المجلس العدلي وامعانهم في تعطيل مؤسسات الدولة لمدة أربعين يوماً املاً في تحقيق هذا المطلب التعجيزي، يحاول الآن من خلال هذه المواقف التصعيدية التي صوب فيها بشكل غير مباشر على النائب السابق وليد جنبلاط واثار حساسية رئيس الحكومة سعد الحريري بمسألة نيته زيارة دمشق بحجة التنسيق لإعادة النازحين السوريين مع النظام السوري برغم معرفته ان تحركه لن يقدم أو يؤخر في هذه المسألة التي تتخطى رغبة وقدرة البلدين معاً، لارتباطها بمعادلة وقوى إقليمية ودولية ومتجاهلاً ما اقدم عليه النظام السوري من إجراءات قضائية مفبركة ولاسباب سياسية محضة ضد رئيس الحكومة وبعض فريقه السياسي في وقت سابق، يحاول من خلال مواقفه هذه الخروج من نكسة «قبرشمون» السياسية والعودة إلى تصدر المشهد السياسي من بوابة زيارة دمشق هذه المرة، بعدما اخفق خلال زيارته الطويلة للولايات المتحدة الأميركية مؤخراً في ترتيب أي لقاء مع أحد المسؤولين الأميركيين لتبديد ما تسببت به احداث «قبرشمون» من تباينات بعد بيان السفارة الأميركية الشهير لوضع حدّ لهذه الحادثة وإعادة تلميع صورته لدى الإدارة الأميركية تحسباً لمرحلة الانتخابات الرئاسية المقبلة.
اما الهدف الثاني في رأي بعض المتابعين فهو محاولة شد عصب مؤيدي التيار البرتقالي حول رئيسه وقيادته من جديد بعد ظهور أكثر من مشهد انقسامي وتفرق العديد من كوادر ومؤيدي التيار جرّاء ممارسات ومواقف رئيسه التي لا تنسجم مع تطلعات هؤلاء في أكثر من مناسبة.
ولعل تعدد احتفالات احياء الذكرى 29 لما حصل في بعبدا في ذلك التاريخ واختلاف المشهد والخطاب السياسي والمطالب، كلها تؤشر بوضوح إلى محاولة الوزير جبران باسيل من خلال رفع خطابه التصعيدي ضد الآخرين، الظهور بمظهر رئيس التيار القوي في السلطة والتيار على حدّ سواء، ليعيد جمع شمل ما تفرق من حوله ويقطع الطريق على أي محاولة لتوسيع حدة الانقسامات التي باتت تشكّل له مصدر ازعاج بفعل تزايد اعداد الناقمين على تفرده، إن كان بالاستئثار برئاسة التيار أو بأدائه على وجه العموم.
اما الهدف الذي يطغى على ما عداه ويكثر الحديث عنه، فإن ما صدر من مواقف تصعيدية عن الوزير باسيل في أكثر من اتجاه، فيعود إلى خلاصة الاجتماع المطوّل الذي عقده مع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله مؤخراً وفحواه، الانتقال إلى التقرب أكثر من النظام السوري بحجة التنسيق لإعادة النازحين السوريين إلى بلدهم، لأنه من دون هذا التنسيق لا يمكن تحقيق التقدم بهذه المشكلة، فيما الرسالة من هذا الموقف نحو دمشق هو استفزاز الشركاء والخصوم على حدّ سواء انطلاقاً من ان ما يحصل على الساحة السورية، إن كان من خلال انسحاب القوات الأميركية أو حلفائها وحتى الهجوم التركي، كل هذه التطورات تصب في خانة «حلف الممانعة» بالنهاية، ويجب ان تستغل في محاولة فرض هذه النتائج على الواقع السياسي بالداخل اللبناني وفي معادلة تقاسم السلطة حالياً واستدراك تأثيرها على انتخابات الرئاسة التي تدغدغ مشاعر باسيل باستمرار وتتقدّم على اهتماماته بالرغم من طول المدة المتبقية لهذا الاستحقاق وما يمكن ان يحصل من متغيرات خلالها قد تبدل من موازين القوى بهذا الاتجاه أو ذاك.
مهما يكن فإن محاولة باسيل قلب الوقائع بالادعاء ان تياره كان وراء خروج الجيش السوري لا تقنع الا السذج لأن الكل يعرف ان دماء الشهيد رفيق الحريري هي التي اخرجت جيش الوصاية السورية من لبنان، فيما إحياء ذكرى احداث 13 تشرين وما تخللها من مآسٍ وخراب سياسي أفضل بكثير من الاحتفالات الطنانة التي لا تعبر عمّا حصل يومذاك بواقعية.