مع أنّ أول عملية فدائية فلسطينية كان قادها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار) في الفاتح من عام 1965، واستهدفت سدّ «عيلبون» بالقرب من مدينة طبريا وبحيرتها وأيضاً بالقرب من مدينة الناصرة، وقد جرت تسللاً من خلال هضبة الجولان السورية المطلة على الشمال الفلسطيني، فإنّ هذه العملية المبكرة كانت الأولى والأخيرة التي تمت عبر هذه الهضبة، إذْ إنّ القرار السوري قبل حرب عام 1967 وبعدها كان منع أي عملٍ فدائي عبر هذه المنطقة، بحجة عدم استدراج سوريا إلى حرب قبل أوانها!!
حتى التنظيم الذي أنشأه «حزب البعث» الحاكم لـ«منافسة» حركة «فتح»، وهو «طلائع حرب التحرير الشعبية – قوات الصاعقة» رفض القيام بأي عملية عبر «الجولان» الذي احتله الإسرائيليون في هذه الحرب، حيث كانت وحدات الجيش العربي السوري قد انسحبت منه انسحاباً كيفياً أمام تقدم «جيش العدو الصهيوني» بحجة حماية دمشق التي كانت إسرائيل تستهدفها وتريد احتلالها.
كان عبد الحليم خدام محافظاً لـ«القنيطرة» في تلك الفترة، وكان حافظ الأسد قد أصبح هو ومن معه القوة المتنفذة في سوريا، وكان «حزب البعث» قد أصبح عاجزاً عجزاً كاملاً، وكان قد شكّل قوة من الطلبة العرب، ونشرها فوق صخور جبل قاسيون الغربية، بتسليح بنادق «تشيكية»، لم تطلق من أي منها إلا طلقة واحدة أصابت أحد الضباط المتطوعين.
المقصود بهذه المقدمة المقتضبة هو أن هضبة الجولان التي احتلها الإسرائيليون عام 1967 قد بقيت صامتة صمت أهل القبور، وأنّ «الحجة» السابقة واللاحقة حتى الآن هي عدم استدراج «القطر العربي السوري» إلى حرب قبل أوانها، وحقيقة أنّ هذا «الأوان» لم يأتِ رغم مرور كل هذه السنوات الطويلة، ومع الأخذ بعين الاعتبار حرب عام 1973 التي خاضتها مصر وسوريا، وفي حين أنّ الأشقاء المصريين بقيادة الرئيس السادات قد استعادوا سيناء كلها حتى قناة السويس، فإنّ «الأشقاء» السوريين قد حققوا في البدايات بعض الإنجازات العسكرية إلا أن هضبة الجولان بقيت محتلة، وهي لا تزال محتلة بحجة عدم السماح لـ«العدو الصهيوني» باستدراج «القطر العربي السوري» إلى حرب قبل أوانها.
وعلى هذا الأساس، فإنّ «جبهة الجولان» المحتل قد بقيت صامتة طوال كل هذه السنوات الطويلة، وإنّ «حزب الله» اللبناني قد حاول في مناورة مكشوفة الاقتراب من الأطراف الشرقية للهضبة السورية المحتلة، لكن «الأوامر» جاءت من الرئيس بشار الأسد ومن قاسم سليماني في ذلك الوقت بأنّ عليه الاتجاه إلى «الوراء» وأنّ تحرير الهضبة السورية ليس هذا أوانه، وأنّ الأولوية هي للقضاء على مناوئي نظام «الممانعة والمقاومة» في دمشق.
وحقيقة، في تلك الفترة المبكرة كانت إسرائيل ضد بقاء نظام «مجموعة صلاح جديد»، الذي كانت نهايته في سجن المزة حتى وفاته، وكانت تفضل أن يكون الحكم لحافظ الأسد، ليكون قرار سوريا قراراً واحداً، وكان الإسرائيليون منذ تلك الفترة المبكرة حتى الآن يبذلون جهداً فعلياً كي لا يغرق هذا البلد في أي فوضى، لا خلاقة، ولا غير خلاقة، وهم خلافاً لكل ما كان يقال كانوا مع الضربات القاصمة التي وُجهت لـ«الإخوان المسلمين» في حماة وحلب وفي دمشق العاصمة، بعد الإطاحة بـ«رفاقه» الذين سبقوه.
ولعلّ ما يؤكد هذا كله أنّ إسرائيل منذ عام 2011 حتى الآن لم تستهدف نظام بشار الأسد إلا ببعض «الضربات» التحذيرية، وأنّ تركيزها بقي متواصلاً ومتلاحقاً على الوجود الإيراني، والمعروف أن الروس منذ تدخلهم في سوريا عام 2015 بقوا يتابعون هذه المسألة عن كثب، وأنهم بقوا يبذلون جهوداً فعلية للإبقاء على هذه «الهدنة» الطويلة بين الإسرائيليين ونظام «الممانعة والمقاومة».
وأكثر من هذا، فإنّ ما لا يعرفه البعض هو أنّ إسرائيل كانت مع التدخل العسكري السوري في لبنان، على اعتبار أنها كانت تعرف أنّ هذا التدخل ستكون نتيجته إخراج منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية من هذا البلد، كما حصل لاحقاً عام 1982. وحقيقة أنّ هذه أمور باتت معروفة، وأنّ أول عمل قامت به القوات السورية بعد وصولها إلى بيروت هو اقتلاع مخيم تل الزعتر الفلسطيني من جذوره.
وما يؤكد هذا كله أنّ هضبة الجولان ذات الموقع الاستراتيجي، والتي تعتبر من أغنى المناطق السورية، بقي الإسرائيليون يحتلونها على مدى كل هذه السنوات الطويلة، بدون أن يصدر عن نظام بشار الأسد ما يزعجهم، وبدون أن يزعجوا هم أيضاً هذا النظام بأي عمل عسكري، إذْ إنّ المعروف والمؤكد أنّ هناك «تفاهماً صامتاً» بين الطرفين على مدى كل هذه السنوات الطويلة، والواضح، بل المؤكد أنّ الروس قد طمأنوا الإسرائيليين بعد تدخلهم في سوريا عام 2015 بأنّ كل شيء سيبقى على ما هو عليه، وأنّ ما بقي قائماً ومتواصلاً منذ عام 1967 وقبل ذلك سيبقى على ما هو عليه.
وهذا يعني بالتأكيد أنّ إسرائيل لا تريد فوضى في «سوريا المفيدة» والمناطق «الملامسة» لهضبة الجولان وجبل الشيخ، وبالطبع درعا والسويداء وحوران كلها، وامتداداً في الشمال حتى حمص وأطراف حماة، ولذلك فإنّ الضربات الإسرائيلية المتلاحقة بقيت تتم بدقة وعلى نحو «انتقائي»، وهذا هو ما بقي يفعله الروس منذ عام 2015 حتى الآن، حيث أصبحت لهم قواعد عسكرية من الواضح أنهم يريدونها أبدية، أهمها قاعدة «حميميم» الجوية العسكرية.
وكذلك، فإنّ الإسرائيليين «المرتاحين جداً» لضبط الروس للأوضاع الأمنية للمناطق المتاخمة لهضبة الجولان، وضبط نظام بشار الأسد لها، كما كان والده يضبط الأوضاع في هذه الهضبة الاستراتيجية عسكرياً بالنسبة لإسرائيل، باتوا يخشون من الوجود العسكري والسكاني الإيراني في سوريا، كما بقوا يخشون أيضاً من أن تغرق المناطق السورية المحاذية لـ«القنيطرة» وامتداداتها الغربية في الفوضى. وعلى غرار الأوضاع في المناطق السورية الأخرى في حلب وحماة وما وراء نهر الفرات، وأيضاً السويداء ودرعا، بقيت إسرائيل تقوم بغارات جوية تستهدف الإيرانيين تحديداً، ومن المؤكد أن الروس يريدونها ويعرفون بها سلفاً، لأنهم هم بدورهم لا يعتبرون أنّ أيّ فوضى في هذه المنطقة ستكون مفيدة لهم… ولأصدقائهم الإسرائيليين.
لقد كان هناك تفاهم غير مكتوب قبل حرب عام 1973 وبعدها بين الإسرائيليين ونظام حافظ الأسد على ضبط الأوضاع الأمنية في هضبة الجولان، حتى في المناطق الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، ولهذا فإن هذه «الهضبة» التي غادرها كل سكانها باستثناء سكان بعض القرى الدرزية بقيت صامتةً صمت أهل القبور على مدى كل هذه السنوات الطويلة، والمشكلة هنا هي أنّ كل هذا الصمت السوري قد شجّع إسرائيل على «ضمّ» الجولان كله، على غرار ما فعلوه في القدس مؤخراً، وما يهدّدون بفعله في الضفة الغربية وفي «أغوار» الأردن، وحقيقة هذا قد يشجع دولة العدو الصهيوني، وهو سيشجعها إذا بقيت الأمور تسير في الاتجاه الذي تسير فيه الآن، على التمدّد نحو الشرق والوصول إلى درعا وإلى السويداء المتاخمتين للحدود الأردنية، والقريبتين من الحدود العراقية!